مشروع قانون تأهيل العمران: فشل أم إفشال ؟

آفاق التدخل العمومي في ميدان التعمير على ضوء التوجهات المطروحة – الفصل الثاني: 
يظهر من خلال الوقوف على عوائق التدخل العمومي في ميدان التعمير أن الحالة الراهنة لواقع التكثلات العمرانية تنم عن واقع معقد على أكثر من مستوى، وخاصة أمام النمو المفرط الذي تعرفه المدن المغربية والضغط المتزايد على البنيات التحتية الأساسية والحاجة إلى المرافق العمومية وغيرها، وهو ما يزيد من مسؤولية المتدخل العمومي ليس فقط في الاستجابة للحاجيات الجديدة بل في البحث عن الآليات والميكانزمات التي من شأنها أن تساعد على التحكم في إنتاج المجال.

فأمام هذا الوضع، وانطلاقا من كون التشريعات القائمة لم تسعف -إلى حد ما- في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الكبرى المطروحة التي تعرفها التجمعات العمرانية، حاولت الجهات المسؤولة على التعمير إيجاد أجوبة للأسئلة المطروحة عبر عدة مشاريع للقوانين تم إعدادها توحي بالتوجهات التي يراها أصحاب القرار كفيلة بتجاوز المعضلة المجالية الراهنة.

يشكل هذا الفصل فرصة للوقوف على هذه المشاريع المذكورة سواء منها تلك التي اقترحت تعديلات جزئية أم تلك التي اقترحت مراجعة شاملة للترسانة القانونية المعمول بها في ميدان التعمير ، كما هو الشأن بالنسبة إلى مشروع مدونة التعمير؛ وذلك في علاقاتها بالتدخل العمومي وبالأدوار التي تنيطها بالفاعلين  (المبحث الأول). ويقف الفصل كذلك، على مدى نجاعة وفعالية الاقتراحات المطروحة عبر قراءة نقدية لمشروع مدونة التعمير على الخصوص عبر رصد إكراهات التنزيل؛ وذلك حتى يتسنى لنا إستشراف ورصد الآفاق الممكنة عبر طرح بعض الإقتراحات والملاحظات التي نراها ضرورية  ومناسبة (المبحث الثاني).

المبحث الأول: توجهات التعمير بالمغرب: ارتباك أم مخاض؟
عرف قطاع التعميرفي المغرب خلال الآونة الأخيرة إعداد عدة مشاريع قوانين لم تر النور؛ وذلك لاعتبارات غير واضحة تعبرفي الغالب عن غياب رؤية متكاملة ومتناسقة بهذا الخصوص.

يحاول هذا المبحث-قدر المستطاع- أن يسلط الضوء على هذه المشاريع، ويبين مدى وجود خيط ناظم بينها (المطلب الأول). كما سيقف كذلك على موقع مشروع مدونة التعمير والجديد الذي جاء به في شأن ميكانزمات التدخل العمومي باعتباره ورشا إصلاحيا شاملا (موضوع المطلب الثاني).

المطلب الأول: تصورات التدخل العمومي في ميدان التعمير من خلال مشاريع قوانين
قبل أن نقف في هذا المطلب على مشاريع القوانين التي اقترحت إصلاحات جزئية والتي همت بالأساس مشروع القانون04-04 القاضي بسن أحكام تتعلق بالسكنى والتعمير ومشاريع أخرى (الفقرة الثانية) ، لا بد من الوقوف أولا على تلك التي قدمت إصلاحات شاملة المتمثلة في مشروع قانون تأهيل العمران (الفقرة الأولى) وذلك بغية تقديم صورة عن المخاض الذي يعرفه قطاع التعمير بالمغرب.

الفقرة الأولى:  مشروع قانون تأهيل العمران: فشل أم إفشال ؟
لقد كشف تقييم تطبيق مقتضيات النصوص التشريعية والتنظيمية المعد ابتداء من سنة 1997 عن اختلالات صارخة وعن ثغرات كبيرة. وكرد فعل على هذه الوضعية، تم اقتراح إصلاح شامل للتشريع المتعلق بالتعمير تمثل في مشروع القانون 00-42 المتعلق بتأهيل العمران الذي كان يهدف تحقيق ما يلي:
–                           إدخال مرونة أكثر على مقتضيات النصوص التشريعية والتنظيمية من أجل الأخذ بالحسبان الخصوصية المحلية والجهوية؛
–                           مراجعة نظام التخطيط العمراني[1]؛
–                           الأخذ في الحسبان هاجس التنمية المستدامة؛
–                           التأسيس لقواعد تعمير تشاوري؛
–                           رفع العراقيل  العقارية والمالية أمام التنمية الحضرية؛
–                           تبسيط المساطر والمسالك؛
–                           مراجعة النظام المطبق على رخص التجزيء والبناء وإحداث المجموعات السكنية؛
–                           تشجيع الاستثمارات؛
–                           ضبط حركة البناء على مستوى المتابعة والمراقبة والزجر؛
–                           تحديد المسؤولية وتوزيع الأدوار بين مختلف المتدخلين في مجال التدبير الحضري؛
–                           إدماج المناطق والأبنية غير المنظمة في النسيج الحضري.[2]

لقد وقف مشروع قانون تأهيل العمران على عدة محطات شكلت ثغرات قانونية على مستوى الممارسة. فعلى مستوى التخطيط العمراني، اقترح إعفاء الأراضي المشمولة بالمنفعة العامة من أداء الضرائب وإعادة النظر في أدوار بعض المتدخلين في اتجاه تدعيم عدم التركيز واللامركزية المرفقية عبر تقوية دور العامل والوكالة الحضرية. كما جاء باقتراحات يمكن اعتبارها جريئة، مثل تلك المتعلقة بجواز القيام بإعلان المنفعة العامة للغرض نفسه بالنسبة لحدود الطرق والسكك الحديدية، فارضا أداء الجهات المعنية ابتداء من انقضاء أجل 10 سنوات قيمة كراء سنوية يتم احتسابها كما تحتسب الرسوم المتعلقة بالأراضي غير المبنية داخل المدارات الحضرية وذلك إلى غاية إصدار قرار تعيين الأراضي المراد نزع ملكيتها[3]، فإدخال قانون 12-90 المتعلق بالتعمير حدود الطرق ضمن التجهيزات التي تنتهي بشأنها الآثار المترتبة على إعلان المنقعة العامة عند انقضاء عشر 10 سنوات،  قد طرح أيضا عوائق حقيقية على مستوى الممارسة. كما يلاحظ اهتمامه بالبيئة عن طريق إلزام وثائق التعمير بالتوفر على مخطط أخضر ينتج عنه ترتيب المناطق المعنية ترتيبا يجعل منها تراثا جماعيا غير قابل للتفويت والاستعمال المغاير لما خصص له[4].

أما على مستوى التدبير العمراني، فقد انتبه واضعو المشروع إلى المشاكل التي تنجم عن تسليم بعض رؤساء المجالس الجماعية لشواهد يثبتون من خلالها أن العملية المرجوة لا تخضع لنطاق قانون 25-90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، حيث اقترحوا ضرورة استطلاع رأي الوكالة الحضرية قبل تسليم الشهادة المذكورة[5] مقترحا تحصين عملية التقسيم بإجبار المحاكم رفض كل قسمة تخل بأحكام القانون أو من شأنها المساهمة في إحداث تجزئات تفتقر إلى التجهيزات الضرورية مع التزام طالب القسمة بإدخال الجماعة المعنية في الدعوى تحت طائلة عدم قبولها[6]. كما أدخل مفهوم التفويت بدل البيع في العقود المتعلقة بالتجزئات العقارية، الأمر الذي من شأنه أن يحد من عمليات التلاعب التي يقوم بها بعض ذوي النيات السيئة عبر اعتبار بعض العمليات بمثابة هبات وصدقات حتى لا تخضع لمقتضيات التجزئة العقارية.

ومن مستجداته كذلك،  أنه رتب عن تسليم الإذن في إحداث التجزئة اعتبار المساحات المخصصة للطرق ومواقف السيارات والمساحات غير المبينة والمساحات المخصصة للتجهيزات الجماعية والمنشآت ذات المصلحة العامة في حكم الأملاك العامة أو الخاصة للدولة أو للجماعات مع إجبار المحافظ على الأملاك العقارية باتخاذ الإجراءات الخاصة بالتقييد الاحتياطي. [7] هذا بالإضافة إلى مستجدات أخرى شملت حذف شرط الهكتار في التجزئة القروية وكذا إعادة النظر في نطاق إلزامية الحصول على رخصة البناء مع اقتراح إضفاء الصيغة الشرعية على الاستثناء[8] المنظم بدوريات واستحضار البعد البيئي باقتراحه القيام بدراسات التأثير على المحيط البيئي لبعض المشاريع الكبرى مع إمكانية وضع شروط عند تسليم رخصة إحداثها ضمانا لعدم إضرارها بالبيئة. كما تطرق إلى مسألة تقاسم تكاليف العمران عبر جعله مساهمة ملاكي الأراضي الشاغرة التي يدرجها التصميم المحلي للتعمير ضمن التوسعات الحضرية مساهمة إلزامية. وبصفة موازية تم اقتراح إعفاء الملاكين المثقلة عقاراتهم بارتفاق المنفعة العامة من أداء الضرائب والرسوم التي تخضع لها هذه العقارات خلال المدة التي تبقى فيها مجمدة[9].

ورغم الإيجابيات التي جاء بها المشروع ورغم الاستحسان الذي لقيه داخل الأوساط المهتمة، حيث جاء نتيجة عمل دراسي وتشاور واسع اشترك فيه جامعيون ومنتخبون وإدارات ومهنيون، فقد ظل في رفوف الأمانة العامة للحكومة دون أن يرى النور، وذلك بدافع أن عددا مهما من مشاريع النصوص التي اعتبرت ذات أولوية قد تم إدراجها في آن واحد في المسلك الرسمي للمصادقة[10]. رغم أن هذا المبرر يفتقد لمسوغ معقول طالما أنه إذا كان السبب وراء عدم المصادقة هو كثرة المشاريع المعروضة، فلماذا لم تتم المصادقة عليه فيما بعد،  خاصة وأن أربعة مشاريع[11] (ثلاثة مشاريع قوانين ومشروع مرسوم) تم إعدادها من قبل كتابة الدولة في الإسكان قد تمت المصادقة عليها جميعها؟ ثم لماذا أيضا لم يتم تبنيه من طرف حكومة إدريس جطو ليكون أرضية لمشروع مدونة التعمير؟

إن إقبار مشروع بهذا الحجم ينم عن نظرة سياسية ضيقة لا تعترف بالتراكم،  بل وفيه هدر للمال العام.  فكيف يعقل فتح نقاش واسع لا سابق له باعتراف الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير[12] دون جدوى؟

إن هذا الأمر يعد مظهرا من مظاهر الارتباك والضبابية التي يعرفها قطاع التعمير بالمغرب، حيث أن إخراج قطاع التعمير من وزارة إعداد التراب الوطني والبيئة والتعمير التي ترأسها محمد اليازغي التابع لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وإلحاقه بقطاع الإسكان في إطار حكومة إدريس جطو برئاسة توفيق احجيرة التابع لحزب الاستقلال كان سببا لإعداد مشاريع قوانين جديدة لا تتعارض في  فلسفتهاا مع مشروع قانون تأهيل العمران.

أمام إفشال مشروع قانون تأهيل العمران كإصلاح شمولي، لجأت الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير إلى اقتراح إصلاحات جزئية بمثابة تدخلات قطاعية مجزأة ومنفردة سنسلط الضوء عليها في النقطة الموالية.
القسم الثاني: حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

______________________________________________
[1] نذكر في هذا الصدد، الجديد الذي جاء به والمتمثل في المخطط المرجعي للتجمعات العمرانية الصغرى التي لا تتعدى ساكنتها 2000 نسمة.
[2] الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير، المديرية العامة للتعمير والهندسة المعمارية : تقرير عن مجال التعمير: 25 سنة من الاصلاحات التشريعية، الرباط، 2005، ص: 5 و6.
[3] الفقرة الثالثة من المادة 25 من مشروع قانون تأهيل العمران، هذا وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر قد تم اقتباسه من طرف واضعي مشروع مدونة التعمير إلا أنهم لم يتطرقوا إلى كيفية تعويض المعني بالأمر بعد مرور عشر سنوات (المادة 35 من مشروع مدونة التعمير).
[4] البند الثامن من المادة السابعة من مشروع قانون تأهيل العمران.
[5] الفقرة الثانية من المادة 76 من مشروع قانون تأهيل العمران، وتجدر الإشارة إلى أن نفس الأمر تم الاحتفاظ به على مستوى مشروع مدونة التعمير.
[6] الفقرة الأخيرة من المادة  76 من مشروع قانون تأهيل العمران.
[7] الفقرة الأولى من المادة 63 من مشروع قانون تأهيل العمران.
[8] المادة 144 من مشروع قانون تأهيل العمران.
[9] الفقرة السادسة  من المادة 25 من مشروع قانون تأهيل العمران.
[10] الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير: تقرير عن مجال التعمير، مرجع سابق، ص:6.
[11] يتعلق الأمر بقانون نظام الملكية المشتركة  للعقارات المبنية وقانون بيع العقار في طور الإنجاز والقانون المتعلق بالكراء المفضي للتملك إضافة إلى المرسوم المحدث للمجلس الوطني للإسكان.
[12] الوزارة المنتدبة المكلفة بالإسكان والتعمير: تقرير عن مجال التعمير، مرجع سابق، ص:6.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.