مشروع مدونة التعمير بين الهوية والاستنبات

يعد ميدان التعمير والإشكالات المرتبطة به مجالا معقدا استرعى اهتمام الدولة والباحثين خاصة في الآونة الأخيرة. لكن رغم ذلك تظل العديد من الجوانب والأهداف دون بلورة على مستوى الإنجاز، الأمر الذي خلق عدم التوازن على مستوى المجال إضافة إلى تمظهرات أخرى للأزمة الحضرية لم تستطع المجهودات المبذولة من طرف الدولة وإدارتها والجماعات المحلية امتصاص تأثيرها نتيجة المقاربة التي تم اعتمادها للتعامل مع الظاهرة العمرانية. وهكذا، فإن السياسة التعميرية لا ينبغي أن تقف على الجانب التقني الصرف في لتخطيط والتدبير العمرانيين للمجال المغربي، بل لابد من استحضار المقاربات […]
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب
القسم الثاني: حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه
الفصل الثاني: آفاق التدخل العمومي في ميدان التعمير على ضوء التوجهات المطروحة
المبحث الثاني: آفاق التدخل العمومي في ميدان التعمير
[…] التخطيط والتدبير العمرانيين للمجال المغربي، بل لابد من استحضار المقاربات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية لإنتاج مجال متكامل.

فالمطلوب اليوم ، إيجاد صيغ تنسيق وتوازن جديدين مبنيين على الفعالية والنجاعة ؛وذلك بإدماج كل المكونات المجالية عن طريق وضع سياسة للتدخل العمومي في هذا السياق واضحة المعالم والأهداف تأخذ بعين الاعتبار الطابع الأفقي لقطاع التعمير والمسؤوليات المشتركة بين العديد من الفعاليات وطنيا وجهويا ومحليا.

لقد حاولت السلطات العمومية إعطاء بعض الإجابات من خلال انكبابها على مراجعة منظومة التعمير الجاري بها العمل والوقوف على محدوديتها في ضبط النمو العمراني ومسايرة التغيرات المتسارعة التي يشهدها المجال بكل مكوناته. وفي هذا السياق جاء مشروع مدونة التعمير الذي يتوخى تأهيل العمران وتهيئة المجال لتجاوز مجموعة من العصوبات. حيث جاء –كما سبق الوقوف على ذلك- بمحاسن واجتهادات مهمة على مستوى المفاهيم والآليات والتقنيات المقترحة. إلا أن التأمل في العديد من مواده يوحي بصعوبات جمة قد تكون مصدر تخوف وحدر قد يزيد المواطن تحفظا على تدبير الشأن العام. هذه الصعوبات والمعيقات هي التي قد تعترض تنزيل بنود المشروع إلى أرض الواقع.

سيحاول هذا المبحث رصد هذه الصعوبات في ارتباطها بالهوية من ناحية، وبالاكراهات التي قد تجعل من بعض بنود التخطيط العمراني المقترحة حبرا على الورق من ناحية أخرى. هذا إلى جانب معطيات أخرى قد لا تسعف في تنزيل التدبير العمراني المقترح (المطلب الأول).

لعل اعتماد هذه المقاربة من شأنه أن تساعد في البحث عن الصيغ القمينة بإيجاد تدخل عمومي في ميدان التعمير مبني على النجاعة والفعالية من خلال طرح اقتراحات وتوصيات قد تشكل رؤية بديلة لواقع التدخل العمومي المعيش (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تطلعات التدخل العمومي في ميدان التعمير أمام إكراهات التنزيل
سيقف هذا المطلب على بعض المفاهيم التي يطرح تأصيلها بعض الإشكالات إضافة إلى العراقيل التي قد تطرحها اللغة التي صيغ بها مشروع مدونة التعمير (الفقرة الأولى). و سيبحث كذلك عن مدى وجود انسجام وتناغم بين آليات التخطيط التي يقترحها المشروع والواقع السوسيو إداري المغربي من جهة (الفقرة الثانية)، وعن مدى قدرة المستجدات التي يقترحها في ميدان التدبير العمراني على تجاوز الأزمة الحضرية على وجه الخصوص من جهة أخرى (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى: مشروع مدونة التعمير بين الهوية والاستنبات
لقد تم نثر العديد من المفاهيم ضمن مشروع مدونة التعمير تستوجب التأصيل كمدخل للبحث في مدى استحضار الهوية في صياغة المشروع المذكور وأثر ذلك على الواقع السوسيو ثقافي المغربي. فإذا كان المشروع قد حمل عدة إيجابيات، فإنه في المقابل يحمل بعض السلبيات.

فعلى مستوى الهوية، تمت صياغة نسخة المشروع المطروحة للنقاش باللغة الفرنسية دون غيرها، علما أن اللغة الرسمية للبلاد دستوريا هي اللغة العربية. إن هذا الأمر لا يعدو أن يكون شكليا فقط ،بل له عواقب وآثار سلبية على النسق القانوني. فبالإضافة إلى إغفال الهوية كدلالة فلسفية، فقد أبانت التجربة على أن ترجمة النصوص القانونية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية قد تطرح عدة تناقضات خاصة عندما يكون النص المترجم مصادقا عليه. و نورد في هذا السياق أمثلة من القوانين السارية المفعول في ميدان التعمير والتي تظهر أثر الترجمة على المبنى والمعنى القانونين.

فالمادة الرابعة من قانون 25.90 التي ترصد الوثائق الواجب الإدلاء بها للحصول على الإذن بالتجزيء، تنص في بندها الثاني على المستندات المتعلقة بالتصور المعماري للتجزئة، في حين تنص المادة باللغة الفرنسية على التصور العمراني conception urbanistique، حيث ثمة فرق كبير بين “المعماري” و”العمراني”. والملاحظة نفسها كذلك تهم البند الأول من المادة الثالثة من المرسوم التطبيقي لقانون 25.90، حيث ترجمت كلمة “عمراني” ب “معماري”.

كما تجدر الإشارة كذلك إلى ترجمة “الرأي المطابق” avis conforme المشار إليه في البند الرابع من المادة الثالثة من ظهير 1993 المنظم للوكالات الحضرية ب “الرأي الملزم”.علما أن هذه الترجمة بعثرت الأوراق بشأن دور الوكالة الحضرية في ميدان التدبير العمراني، حيث هناك من استند على الصيغة العربية لتبرير عدم إلزامية الأخذ بمضمون رأي الوكالة الحضرية الذي لا يعد مطابقا، مما خلف نقاشا في الموضوع بين الباحثين نحن في غنى عنه لو تم إصدار النص الأول للقانون باللغة العربية، بل إن الترجمة غير المضبوطة قد تحرف مدلول النص كما هو الشأن مثلا بالنسبة للبند الثاني من الفصل 58 من قانون 25.90 في إطار الحالات التي تعتبر تقسيما، حيث جاء في البند ما يلي:
– بيع عقار لعدة أشخاص على أن يكون شائعا بينهم إذا كان من شأن ذلك أن يحصل أحد المشترين على الأقل على نصيب شائع تكون المساحة المطابقة له دون المساحة التي يجب ألا تقل عنها مساحة البقع الأرضية بمقتضى وثيقة من وثائق التعمير أو دون 2500 متر مربع إذا لم ينص على مساحة من هذا القبيل. في حين جاءت الصيغة الفرنسية للبند المذكور على الشكل التالي:
“Toute vente en indivision d’une propriété foncière qui aurait pour effet d’attribuer à l’un en moins des acquéreurs des droits de copropriété dont l’équivalence en superficie serait inférieure à la superficie prévus pour les lots de terrain par les documents d’urbanisme et à défaut de superficie ainsi prévue, à 2500 mètres carrés.”

إن الملاحظ من خلال مقارنة الصيغتين العربية والفرنسية أن الصيغة العربية أضافت صيغة “لعدة أشخاص” في حين أن الصيغة الأصلية الفرنسية جاء فيها “كل بيع على الشياع” دون استعمال للصيغة المضافة في النص العربي. وعليه، فإذا افترضنا مثلا اعتمادا على صيغة النص الفرنسية أن شخصين يملكان على الشياع أربع هكتارات بالتساوي فأراد أحدهما أن يبيع نصيبه لشخص أو شخصين آخرين، فإن العملية لا تدخل ضمن الحالات التي يعنيها البند الثاني من المادة 58 في صيغته العربية، في حين تستوجب الإذن بالتقسيم حسب الصيغة الفرنسية.

فصياغة مشروع مدونة بهذا الحجم باللغة غير الرسمية وطرحه للنقاش العمومي، ينم عن عدم استحضار الهوية بمختلف أبعادها خاصة و أن الوزارة المشرفة على القطاع تتوفر على أطر قادرة على صياغة المشروع باللغة العربية كما سبق لها أن قامت بذلك في شأن مشروع قانون تأهيل العمران وكذا مشروع قانون 04.04 المتعلق بالسكنى والتعمير[1]. هذا بالإضافة إلى افتقاد المشروع لديباجة تحدد فلسفته العامة وأسباب نزوله. فغياب الديباجة قد يفتح هو الآخر تأويلات كثيرة [2].

لقد جاء مشروع مدونة التعمير بمفاهيم جديدة من قبيل “التجديد الحضري” و”المشروع الحضري”[3] و”المشروع الترابي” Projet de territoire. حيث يتبين أن هذه المفاهيم قد نشأت وترعرعت في مناخ سوسيو ثقافي وسياسي مختلف تماما عن الواقع المغربي، الأمر الذي يجعل من شأن استنباتها أن يفقد المجال ذلك التناغم المرغوب فيه ويقع لها ما وقع لمفهوم “المشروع الحضري” الذي تم توظيفه واستعماله من طرف الوكالات الحضرية بطريقة تعسفية، بل وأحيانا متناقضة مع حمولة ودلالة المفهوم في غياب أي تأطير قانوني.
______________________________
[1] هناك منشور الوزير الأول عدد 98/53 بتاريخ 11 دجنبر 1998 في شأن إلزامية استعمال اللغة العربية بالنسبة للإدارات العمومية والمؤسسات العامة والجماعات المحلية حتى تحقق الإدارة التواصل المنشود مع المواطن وتقدم له الخدمات المطلوبة بصورة أفضل.
[2] الملاحظ أن جل التشريعات التي صدرت في مرحلة الحماية كانت تتضمن تقنية الديباجة التي تساعد على استلهام روح القانون.
[3] لقد تم إدراج هذا المفهوم ضمن اختصاصات وكالات التعمير في الصيغة الأولى لمشروع مدونة التعمير ليتم التراجع عنه في الصيغة الحالية المعروضة على الأمانة العامة للحكومة علما أن هذا المفهوم متداول داخل أوساط الوكالات الحضرية في غياب أي تأصيل أو سند قانوني له.
للمزيد من التفصيل يراجع:
Abdelwahed El Idrissi : le projet urbain : conseil et réalité au Maroc. Revue de l’ordre national des ingénieurs géomètres topographes, n°7 et 8 juin 2007, p :51.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.