مفهوم التجزئة العقارية وتطوره

مظاهر التدخل العمومي على مستوى التعمير العملياتي – الفصل الثاني:
مما لا شك فيه أن المجال الحضري أصبح يشكل ثقلا ديموغرافيا مضادا للمجال القروي، فما بين سنوات 1982 و1994 أصبح سكان المدن يفوق سكان البوادي. ولا ريب أن هذا التحول الديموغرافي يبقى مرتبطا بعوامل وأساليب معقدة منها سلبيات الإرث التاريخي لسياسة التعمير التي نهجتها إدارة الحماية الفرنسية وارتفاع وثيرة الهجرة القروية، وكانت النتيجة كما هو معلوم ظهور اختلالات اجتماعية واقتصادية وبيئية، هذه الظروف دفعت الدولة إلى إيجاد الإطار القانوني والتنظيمي لضمان نمو منسجم وعقلاني للنسق العمراني وضبط مجال التعمير والتحكم فيه ومواكبته([1])، حيث صدرت قوانين همت مجال التعمير التنظيمي وأخرى عالجت التعمير العملياتي([2]). الذي يعتبر الترجمة الفعلية والامتداد الطبيعي للتعمير التنظيمي فهو يجسد مقتضيات ومضامين وثائق التعمير – إن وجدت – سواء عبر تجزيء الأراضي القابلة للتجزيء أم تقسيم الأراضي القابلة للتقسيم أم بناء الأراضي القابلة للبناء من جهة ومراقبة هذه العمليات السالف ذكرها من جهة أخرى. هذا التعمير العملياتي الذي يظهر من خلاله التدخل العمومي جليا عبر الرخص والأذون التي تسلم في هذا الصدد من قبل السلطات العمومية المختصة وكذلك عبر الرقابة التي تقوم بها هذه الهيئات إما إداريا أو قضائيا.

وللوقوف بشكل مفصل على هذه المظاهر والتجليات سنعمد إلى تقسيم هذا الفصل إلى مبحثين، نتناول في الأول مظاهر التدخل العمومي على مستوى التدبير العمراني الذي يتمثل أساسا في التجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، بالإضافة إلى الأبنية في حين نرصد في الثاني الأدوار المنوطة بالمتدخلين العموميين على مستوى مراقبة التدبير العمراني إداريا وقضائيا.

المبحث الأول: أهم مظاهر التدخل العمومي في ميدان التدبير العمراني بالمغرب
إن مفهوم التدبير العمراني واسع جدا، حيث يشمل جميع مظاهر تنفيذ السياسات الحضرية، هذا الموضوع الذي يكتسي بدوره أهمية خاصة نظرا للتوسع والنمو الديموغرافي الذي تعرفه المدن والتجمعات العمرانية، الأمر الذي يستوجب تطبيق سياسة تعميرية ملائمة للأوضاع السوسيو اقتصادية. ومن هنا تأتي أهمية وثائق التعمير كآليات للتخطيط العمراني من جهة، كما تأتي كذلك الأهمية البالغة للإجراءات المواكبة لتنفيذ مضامين وثائق التعمير وتنزيلها على أرض الواقع من جهة أخرى. فمع افتراض جودة محتوى وثائق التعمير، فإن الأمر يقتضي وجود سياسة واضحة للتدخل العمومي قمينة بإيجاد تدبير عمراني محكم ومضبوط.

وتجدر الإشارة إلى أن مجالات التدبير العمراني أو على الأدق التعمير العملياتي يتميز بضعف تدخل الدولة مقارنة مع مجال تدخلها على مستوى التخطيط العمراني، حيث يقتصر دورها في إطار تنفيذ مقتضيات وثائق التعمير على التجهيزات العمومية بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عبر الوصاية التي تفرضها على الجماعات المحلية والوكالات الحضرية في ميدان التعمير وعبر الدور الأساسي التي تقوم به على مستوى دراسة وثائق التعمير عموما والمصادقة عليها.

إن الاقتصار على التجزئات العقارية والأبنية وتقسيم العقارات كمظاهر للتدخل العمومي يجد أساسه في أهمية هذه العمليات العمرانية، التي لا تعني تقزيم مفهوم التعمير العملياتي، حيث تظل ثمة مجالات أخرى تتعلق أساسا بتجهيزات البنية التحتية (الطرق، المطارات، السكك الحديدية، شبكة الماء والكهرباء…) والفوقية (التجهيزات الإدارية والتجارية والصحية والرياضية والثقافية …) قد لا تطرح إشكالات كبرى على مستوى التدخل العمومي وبالتالي فإن بحثنا لأهم مظاهر التدخل العمومي في ميدان التدبير العمراني سيتم انطلاقا من الوقوف على التجزئات العقارية كمجالات تعرف تدخلا أكثر (المطلب الأول)، إضافة كذلك إلى الأبنية (المطلب الثاني) وكذا تقسيم العقارات (المطلب الثالث) مبرزين قدر الإمكان الإشكالات التي يطرحها التدخل العمومي في هذا الصدد.

المطلب الأول: مظاهر التدخل العمومي في مجال التجزئة العقارية:
تكتسي التجزئة العقارية أهمية بالغة في تحديد المعالم العمرانية للمجال، سواء من حيث تهيئته وتوجيهه أم من حيث تجنيبه مشاهد التشوه العمراني المتمثلة أساسا في تكثلات عمرانية غير منظمة.

فالوعي بهذه الأهمية، جعلت التجزئة العقارية نصب اهتمام العديد من المتدخلين العموميين؛ إذ تمت ترجمة ذلك في ترسانة قانونية لا يستهان بها. وقبل الخوض في تجليات ومظاهر هذا التدخل العمومي، يحسن بنا أن نقف في الفقرة الأولى من هذا المطلب على مفهوم التجربة العقارية وتطوره.

الفقرة الأولى: مفهوم التجزئة العقارية وتطوره
لقد تعددت الدراسات الفقهية التي حاولت تعريف التجزئة العقارية، فقد عرفها الفقيه دولوبادير بكونها “تلك العملية التي تستهدف التقسيم الإداري لملكية عقارية عن طريق البيع والإيجار إلى قطع لخلق مساكن، حدائق أو مؤسسات صناعية وتجارية ([3])، وقد عرفها R. Savy بأنها” تقسيم ملكية عقارية إلى قطع صغيرة يتم بيعها إلى أشخاص يرغبون في تشييد بنايات فوقها([4])، وتعتبر تجزئة حسبHenri Jacqnot  و François Priet تلك العملية الرامية إلى تقسيم الملكية العقارية إلى عدة بقع لإقامة أبنية عليها، حيث يظل بحسب هذا الاتجاه تجزيء الأرض من خصائص حق الملكية، بل إن عملية التجزيء العقارية تعد في أصلها عملية خاصة تتيح لمالكها حرية التصرف. إلا أن هذه الممارسة قد أفرزت بعد الحرب العالمية الأولى عدة تجاوزات تمثلت في بيع المجزئ البقع دون تجهيزها، الأمر الذي استوجب تدخل المشرع.

ويظل أول قانون في فرنسا في هذا الباب هو قانون “كورنودي Cornudet” المؤرخ في 04 مارس 1919 الذي نص على ضرورة أن تغطى التجزئات شأنها شأن سكان الجماعات بتصاميم للتهيئة، إلا أن مقتضياته ظلت حبرا على ورق لغياب الجزاء،ويبقى قانون 12 يوليوز 1924 أول تنظيم حقيقي للتجزئات العقارية ([5])، حيث ألزم المجزئ لأول مرة بضرورة الحصول على ترخيص إداري مسبق للتأكد من جهة من كون مشروع التجزئة العقارية يندرج ضمن مشاريع تنمية التجمع العمراني وبأن البقع المقترحة من قبل المجزئ مجهزة ومعدة للبناء وذلك قبل عرضها للبيع ([6]).

هذا، ويعد قانون التعمير المؤرخ في 15 يونيو 1943 أهم إصلاح، حيث نسخ القوانين السابقة وبين نطاق تطبيق قانون التجزئات العقارية محددا مضمونها.

وتجدر الإشارة إلى أن الحركة العمرانية التي عرفتها أوروبا ما بين الحربين عرفت فيها التجزئة العقارية نوعا من التهميش لفائدة المناطق التي تستوجب التعمير بالأولوية (ZUP) لمناطق التهيئة المتشاور حولها (ZAP) التي سمحت بإنجاز المجموعات العمرانية الكبرى([7]).

إن مجيء قانون 31 دجنبر 1976 قد رد الاعتبار للتجزئة العقارية بعد الإصلاحات التي جاء بها في هذا الشأن معتبرا إياها عملية تعميرية خاصة تتم تحت مراقبة السلطة العمومية، هذا القانون الذي عرف بعض الترميمات التي صبت في اتجاه تبسيط المساطر المتعلقة بإنجاز التجزئات العقارية حيث عمل كل من قانون 07 يناير 1983 ومرسوم 29 مارس 1984 على لا مركزة تسليم رخصة التجزيء([8]).

أما في المغرب، فإن ظهير 14 يونيو 1933 المتعلق بالتجزئات يعد أول قانون من هذا النوع، حيث أخضع إحداث تجزئة ما لترخيص إداري يخوله رئيس المصالح البلدية بالنسبة للتجزئات الموجودة داخل المدار البلدي للمدن والسلطة المحلية للرقابة بعد رأي رئيس المصالح البلدية بالنسبة للتجزئات الموجودة في ضواحي المدن والسلطة المحلية للرقابة بالنسبة للتجزئات الأخرى.

وقد تمم هذا الظهير بظهائر أخرى مؤرخة على التولي في 07 غشت 1934 و 06 أبريل 07 أكتوبر 1937 ([9])، وعلى عكس ظهير 14 يونيو 1933 الذي ترك للسلطة الإدارية صلاحية تحديد المساحة التي تصير تجزئة بفعل تجزيء عقاري لها، فإن ظهير 30 شتنبر 1953 قد عرف التجزئة معتبرا إياها في فصله الثالث ” كل تقسيم لعقار إلى بقعتين أو أكثر عن طريق البيع أو الإيجار لغرض سكني أو صناعي أو تجاري، تكون مساحة إحداها على الأقل دون الهكتار الواحد”.

هذا، وتجدر الإشارة إلى أن القانون المذكور لم يأت بجديد على مستوى الإذن بالتجزيء اللهم ما تعلق بتقليصه للمدة المخصصة لدراسة ملف طلب التجزئة أو التقسيم من قبل الإدارة والتي حددها في ثلاثة أشهر بالنسبة للتجزئات وشهرين بالنسبة لتقسيم الأراضي التي لا تشكل تجزئة ([10]).

كما فرق هذا القانون بين التجزئة الهادفة إلى تقسيم الأرض إلى بقع قصد بيعها للبناء والمجوعة السكنية التي يتم تفويتها في شكلها الجاهز للاستعمال.

ورغم هذه التعديلات التشريعية، فإن ما ميز فترة الحماية هو غياب الانسجام والتوازن على مستوى المجال، حيث استمر الشرخ الحاصل في النسيج الحضري داخل المدن المغربية كما استمرت ظاهرة المضاربة العقارية والتجزئات السرية والأحياء غير المهيكلة ودور الصفيح، الأمر الذي خلق إرثا استعماريا ثقيلا اصطدمت به الإدارة المغربية غداة الاستقلال.

لقد ظل المغرب في ميدان التجزئات العقارية يعمل بمقتضى ظهير 1953 إلى أن تم إصدار ظهير 25 يونيو 1960 المتعلق بتنمية التجمعات القروية([11])، حيث حاول من خلاله المشرع تنظيم عملية التجزيء في العالم القروي.

وهكذا نجد أن الفقرة الأولى من الفصل العاشر من الظهير المذكور قد تبنت تقريبا نفس التعريف الذي أعطاه المشرع للتجزئة في ظهير 30 شتنبر 1953 إلا فيما يخص مساحة القطعة المطلوب توفرها في التجزئات بالعالم القروي، إذ اشترط أن تكون مساحة إحدى البقع أقل من 2500مترمربع .إلا أنه مع ذلك يبقى أكثر مرونة حيث ذهب إلى حد السماح للمجزئ بيع قطع التجزئة حتى قبل تجهيزها، كما أعفى المجزئ كذلك من الإشهار وخفف من العقوبات المفروضة على المخالفين للمقتضيات التشريعية المعمول بها.

وبعد مخاض عسير ولد ظهير 17 يونيو 1992 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات ليوسع من مفهوم التجزئة بإضافة الغرض الحرفي والغرض السياحي وبحذف شرط المساحة مقدما تعريفا للتجزئة العقارية كما يلي:”يعتبر تجزئة عقارية تقسيم عقار من العقارات عن طريق البيع أو الإيجار أو القسمة إلى بقعتين أو أكثر لتشييد مبان للسكن أو لغرض صناعي أو سياحي أو تجاري أو حرفي مهما كانت مساحة البقع التي يتكون منها العقار المراد تجزئته([12])”.

ومن مستجداته كذلك أنه أوجب الاستعانة بالمهندس المعماري ومهندس المساحة والمهندسين المختصين لوضع المستندات الفنية والتقنية للتجزئة كما شدد كذلك العقوبات إزاء المخالفين لمقتضياته.

وفي السياق نفسه نشير إلى أن مشروع القانون 42.00 المتعلق بتأهيل العمران قد اقترح عدة تعديلات في ميدان التجزئات العقارية تروم تبسيط المساطر والمسالك الإدارية وكذا رفع العراقيل العقارية آخذا بعين الاعتبار هاجس التنمية المستدامة.

يتبين من خلال هذا السرد التاريخي الأهمية التي أولاها المشرع لموضوع التجزئة العقارية. فإلى أي حد أولتها الهيئات الإدارية المتدخلة نفس الاهتمام؟ ذلكم ما ستتناوله النقطة الموالية: (انظر الموضوع التالي في قسم القانون الخاص)
القسم الأول: واقع التدخل العمومي في ميدان التعمير
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

_________________________________________
[1] عبد العزيز الزين: بعض مقومات استراتيجيات التعامل مع السكن العشوائي الصلب بالمغرب- حصيلة وأفاق- رسالة نيل دبلوم السلك العالي للمدرسة الوطنية للإدارة العمومية 1984، ص: 94. ذكره الدكتور الحاج شكرة في مقاله “سلطات رؤساء مجالس الجماعات الحضرية والقروية في مجال التعمير العملياتي” المنشور في العدد الخامس من المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، يناير، 2005، ص :37.
[2] هناك من يصطلح عليه العمليات التعميرية opération d’urbanisme أنظر:
Réné Cristini : droit de l’urbanisme. Ed Economica, paris, 1985 p : 259.
[3] عبد الحفيظ تغموتي: السياسة السكنية بالمغرب 1985-1995. رسالة نيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، كلية الحقوق أكدال الرباط، الموسم الجامعي 1996-1997 ص :56.
[4] شوارق الحبيب: أنواع التجزئات العقارية وتقسيم العقارات، عرض مقدم لفائدة طلبة السنة الثانية من وحدة العقار والتعمير والإسكان، كلية الحقوق الرباط أكدال الموسم الجامعي 2001-2002، ص :1.
[5] Henri Jacquot, François Priet : droit de l’urbanisme. Editions DELTA, 3ème édition, 2000, P : 415.
[6] Voir Benoist D Etivaud : le régime juridique des lotissements. Sirey, 1939, cité in Henri Jacqnot, Op, Cit, p :415.
[7] Henri Jacquot, François Priet : Op, cité p: 416.
[8] idem.
[9] عبد السلام المصباحي: مرجع سابق ،ص: 50.
[10] الفصل السابع من ظهير 30 شتنبر 1953.
[11] تجدر الإشارة إلى أن ظهير 25 يونيو 1960 المتعلق بتنمية التجمعات القروية يعد أول نص صدر بعد الاستقلال في ميدان التعمير.
[12] نقترح في هذا الباب إضافة الهبة كذلك إلى عمليات البيع والإيجار والقسمة وذلك لسد باب الذرائع أمام المتلاعبين كما نتساءل في نفس السياق عن القانون الذي يمكنه أن ينظم عملية إيجار بقع التجزئة أهو قانون الالتزامات والعقود أم ظهير 24 ماي 1955 المتعلق بالحق في الإيجار أم القواعد المنظمة للكراء الطويل الأمد سيما وأن البقع الناتجة عن التجزئة العقارية بقع أرضية .محفظة وقد يتم كراؤها لمدة طويلة إذا كان الغرض إقامة منشآت فيها للسياحة أو الصناعة تتطلب استقرارا معينا. للمزيد من التفصيل في هذا السياق، يراجع محمد بونبات : التعامل مع بقع التجزئة العقارية. أشغال اليوم الدراسي المنظم من طرف كلية الحقوق بمراكش في موضوع. “مشروع القانون الجديد04.04 المتعلق بالسكنى والتعمير”. منشورات الوطنية بمراكش، 2005، ص :101.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.