المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة

المفاهيم المؤطرة للمقاولة – المبحث الأول:
ظلت المقاولة، سواء الفردية أو الجماعية، خاضعة لمقتضيات القانون المدني، إلا أن إفرازات الثورة الصناعية و تطور التجارة فرضا انسجام القواعد القانونية المؤطرة للمقاولة؛ هذا الأخير الذي مافتىء يشهد تحولات عديدة و في وقت قياسي، مما يجعل القاعدة القانونية السابقة عاجزة عن تأطير كل التحولات المستجدة، و بالتالي حصل تغير في القواعد و النظريات القانونية التقليدية. و هو ما سنحاول الوقوف عليه من خلال إبراز هذه التحولات ابتداء من تأسيس المقاولة، ثم في حياتها، وصولا إلى نهايتها.

و لما كانت المقاولة هي نواة الاقتصاد الوطني، فإن الملاحظ أن أغلب التشريعات،  بما في ذلك التشريع المغربي، أصبحت تراهن قدر الإمكان على الإبقاء على المقاولة. و هنا نجد أنفسنا أمام مجموعة تساؤلات؛ فما هي هذه المفاهيم الجديدة؟ و أين يتجلى فيها هاجس حماية المقاولة؟ و إلى أي حد توفق المشرع المغربي في تفعيل هذه المفاهيم الجديدة بشكل يحقق مصلحة الاقتصاد الوطني؟

المطلب الأول: المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة
لما كان القانون التجاري تطغى عليه العملية بالمقارنة مع القانون المدني، على اعتبار أن الأول   لا يولي اهتماما كبيرا بالمبادىء العامة لأنه يبحث فقط عن إيجاد وسائل و آليات ملائمة للتجار لإنجاح عملياتهم التجارية؛  كان طبيعيا أن نكون أمام تحولات مفاهيمية على مستوى القواعد القانونية المتعلقة بالمقاولة. [1]

فإذا كان القانون المدني يهتم من خلال النظرية العامة للالتزامات بكيفية انعقاد العقود و تنفيذها و انقضائها، فإن نفس الشيء يصدق على قانون الأعمال، لكن هذا الأخير يعطي حلولا مختلفة عن تلك المعروفة في القانون المدني، و يستعمل تقنيات خاصة.

و هكذا فالتحولات المفاهيمية المتحدث عنها أعلاه تظهر على عدة مستويات، إن كان ذلك فيما يتعلق بالأهلية، أ الكراء التجاري،  قواعد الإثبات،  رسملة الفوائد، وكذا البطلان و الإبطال، مبدأ سلطان الإرادة، نظرية الظاهر، و ما إلى ذالك من التحولات الأخرى.

فعلى مستوى الأهلية يظهر أن الطابع الغالب في قانون الأعمال هو عدم إيلاء الأهلية اهتماما كبيرا؛ ذلك أن القاصر يمكن أن يكون شريكا بل و مؤسسا في بعض الشركات، فالأهلية تتطلب فقط في المؤسسين و لا تتطلب في الشركاء إلا في شركات معينة، و التي يترتب على اشتراك الشخص فيها اكتساب صفة تاجر.

و هذه نقطة إيجابية تحتسب للمشرع المغربي على اعتبار أن عدم تطلب الأهلية في بعض الحالات التي تكون فيها مسؤولية الشريك محدودة، يمكن من جمع رؤوس المال للقيام بإنجاز مشاريع كبرى.

كما أن الكراء التجاري بدوره يجسد التحول الذي نحاول إبرازه، بحيث أنه إذا كان الكراء المدني ينتهي مبدئيا بانتهاء مدته إذا كان العقد محدد المدة، و بسلوك مسطرة الإفراغ إذا كان العقد غير محدد المدة. [2] فإن بيئة الأعمال أفرزت حلولا أخرى، و هو ما يتجلى من خلال ظهير 24 ماي 1955 حيث حدد المشرع مدة معينة(سنتين بالنسبة للعقد الكتابي و أربع سنوات بالنسبة للعقد الشفوي) يتكون بعدها الحق في الكراء لفائدة المكتري رغما عن إرادة المكري، فيسوغ للمكتري أن يتخلى بعد ذلك عن حقه أو يوليه للغير طبقا للفصل 37 من ذات الظهير المذكور، و في حالة تعنت المكتري و إصراره على الإفراغ فقد خوله المشرع الحق في تعويض يساوي قيمة الأصل التجاري علاوة عن مصاريف التنقل.

وهكذا فإن تنصيص المشرع على الحق في الكراء من شأنه أن يحافظ على الأصل التجاري و بالتالي المحافظة على وحدة إنتاجية و مناصب شغل كل ذلك خدمة للاقتصاد الوطني.

و إذا كان النشاط التجاري يتميز بالسرعة و الائتمان، فإن قواعد الإثبات الموجودة في القانون المدني لا شك أنها غدت تعرقل السير العادي للتجارة، مما أدى إلى خلق قواعد جديدة في هذا الإطار، فأصبحنا أمام حرية الإثبات في الميدان التجاري، [3] و دائما في نفس الإطار-الإثبات- و بالضبط فيما يخص كشف الحساب كدليل يقدم إلى القضاء بناسبة النزاعات التي تثور بين البنك و زبنائه، فإن الأمر عرف تدرجا من قبل القضاء، من عدم قبول كشف الحساب كدليل استنادا إلى القاعدة التي تقول بعدم قبول الدليل الذي يصنعه مقدمه، إلى قبول مشروط بكون النزاع قائما بين البنك وزبون تاجر، وصولا إلى الاعتراف التشريعي الصريح بالقيمة الإثباتية لكشف الحساب مع التعديل الأخير للقانون البنكي.

و على مستوى التقادم ثبت أن طول مدة التقادم المنصوص عليها في ق.ل.ع تضر باستقرار المعاملات، و بالتالي تم إقرار مدد قصيرة للتقادم تتراوح ما بين خمسي سنوات و ستة أشهر. [4]

كما أن رسملة الفوائد في المجال التجاري عرفت بدورها تحولا، وبشكل تدريجي، من عدم قبول رسملة الفوائد في المجال المدني، [5] إلى إمكان قبول رسملتها بشكل عام في المجال التجاري، [6]

إلى أن أصبح بالإمكان رسملة هذه الفوائد في المجال البنكي كل ثلاثة أشهر طبقا للمادة 794 من مدونة التجارة. [7]

وفيما يتعلق بالبطلان و الإبطال،  فالملاحظ أنه إذا كانت النظرية العامة تذهب في اتجاه سريان البطلان بأثر رجعي، فإن قانون الأعمال أعطى مفهوما جديدا للبطلان يجعله لا يسري إلا على المستقبل،  [8] كما أن المشرع حصر أسباب البطلان في مخالفة المقتضيات ذات الأهمية مع فسح المجال لتصحيحها و نص على آجال لتقادم دعوى البطلان من خلال المادتين 337 و 338 من قانون 17-95 المتعلق بشركة المساهمة.

الملاحظ هنا أن إمكانية إصلاح سبب البطلان في هذا المجال تنم عن وعي المشرع بمصلحة الشركة و الشركاء و الاقتصاد الوطني التي تستوجب توفير حظوظ البقاء للمقاولة، لأن التشبت بالقاعدة الأصلية القاضية بالبطلان بقوة القانون يعني الحكم على منشأة اقتصادية بالزوال و تعطيل الاستثمار. [9]

كما أن إفراز البيئة الاقتصادية لما اصطلح عليه بالشركة ذات المسؤولية المحدودة قد شكل ثورة على المفاهيم التقليدية و اندحارا لمفهوم العقد[10]؛ فهذه الشركة تجاوزت مفهوم نية المشاركة على اعتبار أنه لا يمكن تصور شريك يشترك مع ذاته، و تجاوزت كذلك مبدأ وحدة الذمة المالية المنصوص عليه في الفصل 1241 من ق.ل.ع. [11]

و إذا كان إقدام المشرع على الأخذ بالشركة ذات المسؤولية المحدودة ذات الرجل الوحيد يمكن من خلق شخص معنوي مستقل عن مؤسسه، فإن التساؤل الذي يطرح هو إلى أي مدى ترقى عقلية المقاول المغربي إلى مستوى الفصل بين ذمته المالية وذمة الشركة فيلتزم بمسك محاسبة خاصة بالشركة؟ ربما لن يحتاج الأمر إلى دليل للقول بخلاف ذلك، إذ غالبا ما يتم الخلط بين أموال الشركة و أموال الشريك، لذا نجد المؤسسات البنكية تطلب كفالة المسير كضمان بالإضافة إلى الضمان الذي تمثله أموال الشركة، وبالتالي يتم الخروج عن الغاية المتوخاة من قبل المشرع.

و إذا كان المبدأ في القانون المدني أن العقد لا يلزم إلا من كان طرفا فيه إذا كانت مقتضيات العقد لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا باتفاق جميع الأطراف فإنه في ميدان قانون الأعمال يكفي أن تتوفر الأغلبية لتعديل مقتضيات العقد. [12]

و يمكن أن نسجل تحولا آخر في المفاهيم يتجسد في نظرية الظاهر؛ فإذا كان الأصل في القانون المدني أن يعمل بالحقيقة إذا كانت مخالفة للظاهر، فإنه في ميدان الأعمال تتم التضحية بالحقيقة إذا لم يكن يعكسها الظاهر؛ و مثال ذلك كون المشرع يضفي صفة تاجر على الممنوعين من ممارسة التجارة، (المادة 11 من م.ت).

من خلال ما سبق، يظهر أن المشرع لا يقدس المبادىء القانونية العامة، بل يخرج عنها كلما اقتضى الأمر ذلك تماشيا مع التوجه الليبرالي الذي ينهجه المغرب؛ حيث نجده-المشرع- ينص على أن شركة المساهمة هي الشريعة العامة بالنسبة لباقي الشركات، و هو ما ينم عن وفاء المشرع المغربي لخياره الاقتصادي، إذ لا يخفى عن الجميع أن شركة المساهمة أداة ممتازة من أدوات الليبرالية الاقتصادية، و باعتبار المغرب اختار النظام الليبرالي الاقتصادي في جميع جوانب سياسته، بالإضافة إلى أن تبرير إصلاح قانون الشركات يجد أساسه في مواكبة النهج الليبرالي و تفعيل قانون الخوصصة، و إعداد نسيج المقاولات المغربية لمسايرة التزاماتها للمقتضيات العالمية المترتبة عن اتفاقيات الكات والشراكة مع الاتحاد الأوربي. فإنه و انسجاما مع نفس الوضع كان على المشرع المغربي إبداع تطبيقات لشركة المساهمة بصورة ملائمة لأنواع المقاولات حسب أهميتها بناء على معايير اقتصادية و اجتماعية و تقنية و قانونية تميز بين الصغيرة و المتوسطة منها. [13]

و يمكن القول بأن المشرع يجب أن تكون له رؤية واضحة، فاختيار المغرب للنهج الليبرالي يستلزم منه أن يعمل على تأهيل المقاولة المغربية من خلال توحيد الإطار القانوني السالف ذكره على اعتباره الخيار الذي ينسجم مع التصور الليبرالي، لتكون بذلك المقاولة في مستوى هذا التحدي.

هذا، وإذا كان ما تقدم يبين لنا بجلاء مجموعة من التحولات- وليس كلها- التي تعكس تطورا في فلسفة المشرع، فإن التحول ذاته نلمسه في الانتقال من نظام الإفلاس إلى نظام صعوبات المقاولة.
الإطار القانوني للمفاهميم الاقتصادية
________________________________
4Yves GUYON- Droit des affaires-Edition Economica- 7eme édition 1992- Tome 1- P 7
5 للتوسيع أكثر راجع محمد بن أحمد بونبات- الجديد في كراء الأماكن المعدة للسكن أو الاستعمال المهني-المطبعة و الوراقة الوطنية- مراكش- الطبعة الثانية 2000 –ص 39 و ما بعدها.
6 المادة 334 من مدونة التجارة.
7 فالأصل في المادة التجارية هو أن مدة التقادم هي خمس سنوات إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك من قبيل ما نصت عليه295 من مدونة التجارة بخصوص تقادم الدعوى الصرفية.
8 و في ذلك ينص الفصل 874 من ق.ل.ع على مايلي ” يكون باطلا بين كل الناس اشتراط كون الفوائد غير المدفوعة تضم في آخر كل عام إلى رأس المال الأصلي لتصبح هي نفسها منتجة للفوائد.”
9 جاء في الفصل 873 من ق.ل.ع “…..و يسوغ في الشؤون التجارية احتساب الفوائد بالشهر و لكن لا يجوز اعتبارها من راس المال المنتج للفوائد حتى في الحسابات الجارية إلا بعد انتهاء كل نصف سنة”
10قانون 15-95 بمثابة مدونة التجارة منشورة بالجريدة الرسمية المؤرخة 3 إكتوبر1996 عدد 4418 صفحة 2187 .
11و في هذا الصدد تنص المادة 346 من قانون شركة المساهمة على ما يلي “كل شركة حكم ببطلانها تحل بقوة القانون دون أثر رجعي و تتم تصفيتها، و يكون لهذا البطلان تجاه الشركة نفس آثار الحل المنطوق به قضاء”
قانون شركة المساهمة منشور بالجريدة الرسمية عدد
12 فؤاد معلال- شرح القانون التجاري المغربي الجديد- دار النشر غ.م- الطبعة الثانية2001 –ص 248 .
12 المختار بكور- الشركة الفردية ذات المسؤولية المحدودة من شريك وحيد إصلاح أم بدعة- المجلة المغربية للقانون و السياسة و الاقتصاد- العدد 35 –ص 214 و مابعدها.
13  ينص الفصل 1241 من ق.ل.ع على مايلي “أموال المدين ضمان عام لدائنيه و يوزع ثمنها عليهم بنسبة دين كل واحد منهم ما لم توجد بينهم أسباب قانونية للأولوية”
15 حالة تعديل النظام الأساسي يتطلب الأمر فقط موافقة الأغلبية، فتسبح الأقلية ملزمة بموقف الأغلبية ولو لم تكن راضية بذلك.
16  محمد الادريسي العلمي المشيشي- خصائص الشركات التجارية في التشريع الجديد- مجلة المحاكم  المغربية- العدد 80 –السنة 2000-ص 1 .

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.