المفاهيم الإقتصادية المتولدة عن التطور الصناعي

المفاهيم الجديدة المتولدة عن التطور الصناعي و التكنولوجي –  المبحث الثاني:
ظهرت مجموعة من المفاهيم الجديدة على مستوى حقوق الملكية الصناعية تبين معها عجز المبادىء العامة عن استيعاب هذه الأخيرة؛ فالقيود المفروضة على طالب براءة الاختراع، و طبيعة الحق في براءة الاختراع، و حدود السلطات التي يمارسها مالك هذه البراءة تجعلنا أمام تداخل لعدة مفاهيم قانونية،  وفي نفس الوقت تبين استقلال براءة الاختراع بخصوصيات لا توجد على مستوى الحقوق الأخرى.

كما أن تنصيص المشرع على علامات التصديق الجماعية يشكل ثورة على المفاهيم القانونية التقليدية؛ حيث يصعب فهم طبيعة هذه الحقوق، إلا بإرجاعها إلى البيئة التي نشأت فيها.

و لم تقتصر التحولات على المستوى الصناعي بل تعدته إلى المجال التكنولوجي الذي أدت التطورات المتلاحقة في ظله إلى بروز مفاهيم جديدة استوجبت تغيير مفهوم الوثيقة، مفهوم وسائل الإثبات، مفهوم التوقيع، ظهور مؤسسة المصادقة الالكترونية كبديل عن مؤسسة العدول و الموثقين.

وباعتبار المقاولة جزءا من هذا المحيط و لا يمكنها إلا أن تواكب التطور الصناعي و التكنولوجي، فإن مجموعة التساؤلات تطرح نفسها؛ أين تتجلى هذه التحولات؟ و إلى أي حد تنسجم مع بيئة الاقتصاد المغربي؟

المطلب الأول: المفاهيم المتولدة عن التطور الصناعي
إذا كانت النظرية العامة تصنف الحقوق إلى حقوق شخصية و حقوق عينية؛  والحق العيني هو سلطة يخولها القانون لشخص معين على شيء معين بالذات لاقتضاء المنفعة من هذا الشيء دون وساطة أحد، أما الحق الشخصي فهو رابطة قانونية بين شخصين تخول أحدهما إلزام الآخر بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل. فإنه من الصعوبة بمكان إدراج حقوق الملكية الصناعية ضمن أي من هذين التصنيفين على اعتبار أنها من جهة محددة المدة، ومن جهة أخرى غير ملموسة أو معنوية، بخلاف الحقوق الأخرى.

لذلك لا يمكن فهمها إلا في بيئتها، و هو ما يعزز الفكرة التي ندافع عنها مند البداية، فتبقى حقوقا معنوية ذات طبيعة خاصة، تتجلى خصوصياتها منذ نشأتها.

فإذا كان الأصل أن الحق ينشأ بإرادة صاحبه، فإنه في مجال حقوق الملكية الصناعية وخصوصا في إطار براءة الاختراع، لا ينشا الحق بمحض إرادة المبدع و متى و كيفما شاء، بل يستلزم الأمر الخضوع للعديد من الإجراءات و الشكليات و الإدلاء بمجموعة من الوثائق و السندات، و كذا احترام الآجال القاطعة التي يحددها المشرع؛ أي احترام الشروط الشكلية و الشروط الموضوعية المقررة في هذا الصدد.

و إذا كانت حقوق الملكية الصناعية قد شكلت ثورة على التصنيف التقليدي للحقوق، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل إن هذه الحقوق عرفت تحولا في وظائفها؛ حيث انتقلت من وظيفة المساهمة في تصنيع المجتمع و التقدم التكنولوجي إلى لعب دور مهم في التنمية و تشجيع التجارة الدولية. [1]

أضف إلى ذلك أن التأمل في الحق في براءة الاختراع سيفضي إلى نتيجة مؤداها أنه حق و واجب في نفس الوقت، على اعتبار أن المشرع،  إذ يمنح صاحب الحق الاستئثار باستغلال البراءة [2]، فإنه يوجب عليه ضرورة الاستغلال بل تزويد السوق بالقدر الكافي بالمنتوج المحمي بالبراءة.

ولعل السبب في ذلك راجع على طبيعة الحق في براءة الذي تتوزعة أربعة مصالح متعارضة ينبغي لقانون الملكية الصناعية التوفيق بينها ما أمكن؛ مصلحة المستهلكين، مصلحة المنافسين، و مصلحة الاقتصاد الوطني.

هذا، و إذا كان الأصل أن صاحب الحق له السلطة التقديرية الكاملة في استغلال حقه من عدمه، فإنه نظرا للوظيفة الاقتصادية و الاجتماعية التي يفترض أن تؤديها براءة الاختراع، فقد أصبح المشرع يستوجب استغلال هذا الحق تحت طائلة جزاءات، هذه الأخيرة التي عرفت هي الأخرى تحولا من جزاءات إعدامية إلى جزاءات تنموية للحق [3] ؛  ففي مرحلة أولى- جزاءات إعدامية – كان المشرع المغربي يقضي بزوال الحق في البراءة في حالة عدم استغلالها في مدة معينة(ثلاث سنوات من الحصول على سند البراءة أو أربع سنوات من إيداع الطلب بشأنها) ليتطور الأمر في مرحلة لاحقة إلى معاقبة صاحب الحق عن عدم الاستغلال أو الاستغلال غير الكافي بالترخيص الإجباري أو الترخيص التلقائي، وكل ذلك خدمة للاقتصاد الوطني.[4]

و بالرغم مما يمكن أن يقال عن الترخيص بالاستغلال الإجباري أو التلقائي بإنه يشكل هدما لمبدأ سلطان الإرادة، حيث أن القرار الإداري الانفرادي أو القضائي هو الذي يقرر هذا الترخيص بالاستغلال و يحدد مضمون العقد و كيفية تنفيذه و شروطه دون اعتبار اقتراحات أو ملاحظات أو رأى صاحب البراءة.فإن هذه خطوة حسنة تحتسب للمشرع المغربي و تنم عن وعي بالدور الاقتصادي و الاجتماعي و التنموي لهذه الحقوق و الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وضع آليات كفيلة بضمان استغلال هذه الحقوق.

مع الإشارة إلى أن المشرع المغربي ساوى مابين عدم استغلال البراءة والاستغلال غير الكافي، ولم يوضح المقصود من الاستغلال غير الكافي تاركا بذلك الأمر للقضاء، الذي نأمل أن يعتمد معايير تحمي مصلحة المستهلك.

و عموما إذا كان المشرع المغربي قد أحدث تحولات كبيرة في المفاهيم المتعلقة ببراءات الاختراع مواكبة للتشريعات الدول المتقدمة، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هو هل بتبني نص تشريعي جديد و إحداث ثورة في المفاهيم و الآليات القانونية و القضائية يمكن المقاولات المغربية من منافسة المقاولات الأجنبية؟

الواقع أن القدرة التنافسية لا تعتبر في حد ذاتها خيار سياسي أو اقتصادي يمكن اتخاذه بواسطة مراسيم أو قرارات إدارية بل هي نتيجة حتمية لتظافر مجموعة من الفعاليات تضم العلماء و الباحثين و التقنيين و رجال القانون و الخبراء.

و في ظل الركود الملموس للاقتصاد الوطني خصوصا في الفترة مابين 1997 و 2002 و في ظل حد أدنى للأجور يعب الحديث عن مقاولة قادرة على الإبداع و المنافسة، و ما يزكي هذا القول أن أغلبية المقاولات المغربية نجدها مستهلكة لإبداعات غيرها من المقاولات الأجنبية من خلال عقود الترخيص.

هذا، وما قيل عن براءة الاختراع يصدق بشكل أوضح عن علامات التصديق الجماعية؛ ذلك أن هذا النوع من الحقوق جديد حتى بالنسبة للقانون التجاري، فالقانون التجاري يسمح بالتصرف في الحقوق المعنوية، أما الحق المذكور –علامة التصديق الجماعية- لا يسمح بالتصرف فيه. [5]

و إذا كان يبدو غريبا أن نصف علامة التصديق الجماعية بالحق ولا نمكن صاحبها من بيعه أو رهنها بل و حتى من استعمالها، فإن هذه الغرابة ستزول إذا ما استحضرنا الاعتبارات التي كانت وراء هذا المنع، و هي كون منح حق تأسيس علامات من هذا النوع حصرا لفائدة أجهزة و جهات ذات مصداقية و كفاءة مهنية في النشاط الذي تمارسه؛ فهده الجهات وحدها تتقمص صفة الجهات المانحة للتصديق للاعتبارات المذكورة، على اعتبار أن تفويتها للغير قد يجعل تلك الاعتبارات غير متوفرة بالمرة. أما العلة من وراء عدم إمكانية استعمال هذه الجهة للعلامة المملوكة لها هي أنها لا ينبغي أن تجتمع فيها صفة الجهاز المانح للتصديق من جهة وصفة المستفيد من جهة أخرى.[6]

و إذا كان، ما تقدم، قد أبرز لنا الحول الحاصل في مفهوم الحق في هذا الباب، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل الأكثر من ذلك، يمكن للغير استعمال هذا الحق شريطة الخضوع للشروط و المقاييس المحددة في نظام الاستعمال، منها ما هو متعلق بكيفية الإنتاج و أساليبه، و منها هو متصل بجودته، إضافة إلى الالتزام بالتقيد بالضوابط المتعلقة بالمراقبة بشقيها الذاتية و اللاحقة [7]، و كل ذلك ليكون المنتوج الحامل لهذه العلامة ضامنا للمعطيات التي يحملها بما في ذلك الجودة.

بالنظر إلى هذه القواعد و التقييدات، يتبادر إلى الذهن أن علامة التصديق الجماعية في خدمة المستهلك طالما انها تضمن له جودة المنتوج الذي يحملها، لكن استحتضار كون فئة المستهلكين تنقسم، على الأقل، إلى ثلاثة أقسام، منها من يراهن على الجودة، ومن يراهن على السعر، ومن يراهن عليهما معا، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو أي مستهلك تحميه؟

يمكن القول أنها تحمي من جهة، المستهلك ذي الدخل العالي على اعتبار أن الإجراءات تشترطها مؤسسة التصديق سترفع من تكلفة الإنتاج، خاصة و أن المشرع لم يبين قدر السومة التي ستتقاضاها المؤسسة المشرفة على منح علامة التصديق، ومن جهة أخرى فإن علامات التصديق الجماعية تحقق مصالح المقاولات الكبرى على اعتبار أنها وحدها القادرة على التقيد بالإجراءات المتطلبة لمنح علامة التصديق الجماعية.

وهكذا فإن استحضار واقع الاقتصاد المغربي الذي يتميز بهيمنة دوي الدخل الضعيف من جهة و المقاولات الصغرى و المتوسطة، أضف إلى ذلك كون عقلية المقاول المغربي تتميز برفضه لتدخل أجهزة خارجية في عملية الإنتاج، يجعل التشكيك في حظوظ نجاح هذه المؤسسة مسألة واردة.

و إذا كان التطور الصناعي قد أفرز مفاهيم جديدة خصوصا على مستوى حقوق الملكية الصناعية أثرت في المقاولة، فإن التطور التكنولوجي بدوره أثر على المفاهيم القانونية السائدة، كما فرض على المقاولة الاندماج في المنظومة التكنولوجية، و هذا هو موضوع المطلب الموالي.
الإطار القانوني للمفاهميم الاقتصادية
________________________________
26 خالد مداوي- حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى 2005 –ص.7
27 يراد بالاستغلال المفهوم الشامل و الواسع لهذا الاصطلاح، أي أنه يشمل حالات الصنع و الإنتاج،  كما يرتبط بحالات تداول و تسويق المنتجات و الخدمات المتفرعة عنها و لم يشترط القانون شكلا في هذا الاستغلال؛ و بالتالي وضع على عاتق القضاء تحديد مقاييس مضبوطة للقول بوجود الاستغلال من عدمه.
للمزيد من التوسع راجع   محمد محبوبي- النظام القانوني للمبتكرات الجديدة في ضوء التشريع المغربي المتعلق بحماية الملكية الصناعية و الاتفاقيات الدولية –دار أبي رقراق للطباعة و النشر –الطبعة الأولى 2005 – ص 292 و ما بعدها.
28خالد مداوي- حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –م.س–ص .73
29 امحمد لفروجي – الملكية الصناعية و التجارية تطبيقاتها و دعاواها المدنية و الجنائية – مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء – الطبعة الأولى 2002 – ص 159 و ما بعدها.
30 طبقا للمادة 173 من قانون 17-97 المتعلق بالملكية الصناعية كما وقع تتميمه بمقتضى قانون 31-05 .
وتنص المادة 173  “لايمكن أن تكون علامة التصديق الجماعية محل تفويت أو رهن أو أي تدبير من تدابير التنفيذ الجبري..”
31 خالد مداوي- حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –م.س–ص121 .
32 يقصد بالمراقبة الذاتية هنا أن المستعمل يجب أن يراقب ما إذا كان المنتوج تتوفر فيه شروط استعمال هذه العلامة، في حين يراد بالمراقبة اللاحقة حق المؤسسة المانحة لعلامة التصديق الجماعية القيام مباغثتة للتأكد من احترام ضوابط الاستعمال.
للمزيد من التوسع راجع خالد مداوي- حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –م.س–ص 116 و ما بعدها.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.