مزايا مبدأ الشرعية الجنائية وعيوبها

تقدير مبدأ الشرعية  – المطلب الثاني :

الفقرة الأولى: مزايا مبدأ الشرعية

يعتبر مبدأ الشرعية أولا وقبل كل شيء ضمانة أساسية من ضمانات حقوق الإنسان لأنه يشكل سياجا يحمي الفرد وحقوقه من طغيان السلطة وتعسفها، لأن هذه الأخيرة قد تغالي في العقاب عند غياب قانون يحدد بشكل دقيق أركان الجريمة والعقوبة المقررة لها.

كما يعتبر مبدأ الشرعية صيانة للحريات الفردية لأنه يمثل إنذارا مسبقا للعلم بالأفعال المجرمة وعقوباتها ، مما يمكن الفرد من إتيان وممارسة كل الأفعال والنشاطات المباحة في اطمئنان وحرية  بالإضافة إلى هذا، فمبدأ الشرعية يرضي الشعور العام بالعدالة كونه يعطي للعقوبة أساسا قانونيا ويجعلها مقبولة بل مطلوبة من قبل الرأي العام، مادامت صادرة عن ممثلي الشعب ومن أجل المصلحة العامة.

وكون هذه العقوبة تكون موجهة دون تمييز إلى كل من توفرت فيه الشروط المنصوص عليها في النص، فإن هذه المساواة بين الناس أمام القانون، تجعلهم يطمئنون للسلطة مما ينمي حسهم الوطني وشعورهم بالانتماء.

وبالإضافة إلى حمايته للفرد، فإن مبدأ الشرعية يحمي كذلك المجتمع برمته، لأنه يلعب دورا وقائيا في منع وقوع الجريمة، فتحديد الأفعال المجرمة والعقوبات المقررة لها يكون له ضغط بسيكولوجي على الأفراد قد يثنيهم عن ارتكاب الجرائم ويصبحون أقرب إلى الامتثال  من العصيان.

من جهة أخرى، فإن مبدأ الشرعية يدعم مبادئ الدولة الحديثة بتكريسه لمبدأ سيادة القانون الذي يعد أحد أهم الدعائم الدستورية في نظام الدولة الديموقراطية ومعناه التزام الحاكم والمحكوم بالقانون.

كما يكرس مبدأ فصل السلطات لأنه يقيم حاجزا بين اختصاصات سلطات الدولة الثلاث في المجال العقابي، فالسلطة التشريعية تضع القوانين والسلطة القضائية تطبقها عمليا في الأحكام والقرارات الصادرة عنها، أما السلطة التنفيذية فيقتصر دورها على التنفيذ.

وأخيرا، فإن مبدأ الشرعية يجعل القانون الجنائي متلائما مع المواثيق الدولية في إطار ضرورة الاعتناء بحقوق الإنسان.

الفقرة الثانية : الانتقادات التي وجهت إلى مبدأ الشرعية

رغم أهمية وقيمة مبدأ الشرعية والتي تتجلى لنا من خلال كل مزاياه، إلا أنه رغم ذلك لم يسلم من النقد فشأنه شأن جميع المبادئ القانونية وجهت له العديد من الانتقادات، فاتهم أول الأمر، بأنه جاء ليحمي مصالح الطبقة البورجوازية باعتبار أنه لم يظهر إلى الوجود بشكله الحالي إلا مع قيام الثورة الفرنسية، ومادامت البورجوازية هي التي وصلت إلى السلطة بعد الثورة فإنها حتما اتخذت مصالحها بعين الاعتبار، ولم تتخذ المبدأ إلا كمظهر شكلي لحدود سلطان الدولة على الأفراد.

بعد ذلك ،انتقد مبدأ الشرعية إبان الحكم النازي في ألمانيا وإبان الحكم الفاشي في إيطاليا من طرف أنصار المذهب الايجابي، والذين يرون أن المبدأ يؤدي إلى وجود القانون الجنائي ويمنعه من مواكبة التطورات والمستجدات، وهذا يشكل خطرا على المجتمع لأنه لا يوفر له الحماية ضد المجرمين.

ففي نظر هؤلاء، إذا كان مبدأ الشرعية يحمي الفرد ضد تعسف القضاة، فهو لا يوفر الحماية الكافية للمجتمع ضد الأفراد، خصوصا وأن التجربة أكدت أن الأفعال الخطيرة تم ارتكابها في وقت لم تكن متوقعة فيه وفي غياب نص يجرمها، فمثلا عندما وقع أول حادث اختطاف لطائرة مدنية في البيرو سنة 1930، لم يكن هناك نص يجرم هذا الفعل.

اتقاد آخر وجه لمبدأ الشرعية، مصدره مذهب الدفاع الاجتماعي الجديد في فرنسا، ومفاده أن المبدأ غير واقعي وتجريدي، لأنه يحدد العقوبة في كل جريمة على أساس الأضرار المادية المترتبة عليها لا وفق خطورة المجرم والظروف المحيطة به، فالشخص الذي يقدم على السرقة  بدافع الفقر هو أقل خطورة من الذي يقدم عليها بسبب الجشع، ورغم ذلك يعاقبان بنفس العقوبة دون أن تأخذ بعين الاعتبار نية كل منهما أوحتى سوابقه الإجرامية.

وهناك من الفقه من قال أن مبدأ الشرعية مبدأ غير أخلاقي لأنه يمنع توقيع العقوبة في حالة عدم وجود النص، وهو بذلك غير قادر على معاقبة من لهم من الذكاء والخبرة  ما يكفي لتمكينهم من الاستفادة من الثغرات القانونية ويرتكبون أفعالا ضارة بالمجتمع وجديرة بالحماية الجنائية، ومع ذلك لا تستطيع العدالة معاقبتهم، لأن القاضي الجنائي إذا لم يجد نصا ينطبق على الواقعة فإنه مجبر بأن يقضي بالبراءة.

هذه الانتقادات جعلت بعض الدول في فترة معينة تلغي مبدأ الشرعية من تشريعاتها قبل أن تعود وتتبناه مرة أخرى كألمانيا إبان الحكم النازي والاتحاد السوفياتي إلى غاية انهياره سنة 1990.

كما عرف المبدأ في بعض الدول التي لم تلغيه، تراجعا في التطبيق، ومن أوجه هذا التراجع، أن المشرع في هذه الدول أصبح يتبنى قوانين مطاطية إن صح التعبير، صياغتها تعطي تفسيرات مبهمة للجريمة وتحتمل التأويل الواسع، فاعتماد مثل هذه القوانين التي يمكن وصفها بالجبانة، يعتبر مؤشرا على تراجع مبدأ الشرعية.

مظهرا آخر من مظاهر تراجع المبدأ، هو أنه مند انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت تعطى للقاضي أكثر فأكثر السلطة في تفريد العقاب، بعدما أصبح المشرع يحدد لكل جريمة عقوبة بين حد أدنى وحد أقصى مع النص على ظروف مشددة وظروف مخففة، بل أصبح بإمكان القاضي الحكم بالعقوبة مع إمكانية إيقاف تنفيذها، فتفريد العقاب، وإن كان يخفف نوعا ما من الصرامة والمحدودية التي يفرضها مبدأ الشرعية ولا يتعارض معه، إلا أنه لا يجب المغالاة والمبالغة فيه لأن القاضي يبقى إنسانا معرضا للخطأ وللانسياق وراء قناعاته وميولاته الشخصية عند تقريره للعقوبة بين حدها الأدنى والأقصى أوعند تمتيع فلان بالظروف المخففة أو عدم تمتيعه بها.

كما أن التفريد الإداري، والذي يعطي للسلطة الإدارية العقابية، إمكانية الأمر بالإفراج الشرطي عن المعتقلين قبل انتهاء مدة عقوبتهم بسبب حسن السيرة والسلوك، يعتبر مؤشرا آخر على تراجع مبدأ الشرعية.

غير أنه رغم التراجع الذي يعرفه مبدأ الشرعية والانتقادات الموجهة إليه فإنه يضل مبدأ ملكا في التشريع الجنائي يتعذر الاستغناء عنه لأنه يعد مكتسبا نيل بعد عناء ولا يمكن التفريط فيه بسهولة، فالمبدأ له رجاله ونساءه من الفقهاء الذين يدافعون عنه ويردون على هذه الانتقادات ويرون أنها أصبحت متجاوزة.

كما أن مبدأ الشرعية يحضى بحماية على المستوى الدولي وكذا على المستوى الوطني.

حماية دولية، تتجلى في التنصيص عليه في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي إعلان حقوق الإنسان والمواطن وفي الاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان.

وحماية وطنية، حيث أن الدول تعتبره من المبادئ الأساسية وتنص عليه في دساتيرها كما أنه أقدس ما تحرص عليه القوانين الجنائية المعاصرة.

المبحث الأول : ماهية مبدأ الشرعية وتقديره
مبدأ الشرعية الجنائية

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.