أحكام القانون الجنائي وعدم الرجعية : ماهية ونطاق المبدأ

تطبيق القانون الجنائي من حيث الزمان والمكان  – المطلب الثاني:
يعتبر تطبيق القانون الجنائي من حيث الزمان أو مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي (الفقرة الأولى) وتطبيقه من حيث المكان (الفقرة الثانية) نتيجة منطقية للأخذ بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات

الفقرة الأولى: عدم رجعية أحكام القانون الجنائي
تقتضي دراسة مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي التعرف أولا على ماهيته ثم التطرق لنطاق تطبيقه والإشكالات التي يثيرها هذا النطاق

أولا: ماهية المبدأ
يقضي بعدم جواز تطبيق نصوص القانون الجنائي الجديد على الأفعال التي وقت قبل تاريخ العمل بها، لأنه قبل هذا التاريخ لم يكن هناك وجود للقانون وحيث لا يوجد قانون لا يمكن أن توجد جريمة ولا عقوبة إعمالا لمبدأ الشرعية الجنائية فالقاعدة إذن أن كل جريمة يطبق عليها القانون الذي وقعت في ظل العمل به[1]، وذلك حتى يطمئن الأفراد على حرياتهم والتصرفات التي قاموا بها في ظل الأوضاع القانونية القائمة وقتها.

ويكتسي هذا المبدأ أهمية بالغة جعلته حاضرا في جل دساتير دول العالم وقوانينه ومنها المغرب الذي جعل هذا المبدأ يسري على كافة القوانين حيث ينص الفصل 4 من دستور 1996 على أنه “…. ليس للقانون أثر رجعي”. والأهمية الدستورية لهذا المبدأ دفعت المشرع الجنائي المغربي إلى أن يكرسه[2] في الفصل 4 بقوله :”لا يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه”.

كما تم التنصيص على هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 11 وأكدت عليه المواثيق الدولية[3]، إذ نصت عليه بعض اتفاقيات تسليم المجرمين وورد في العهد الدولي الحقوق المدنية والسياسية الذي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966.

ثانيا: نطاق المبدأ
يقصد بنطاق مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي هو بيان النصوص الجنائية التي تنضوي تحت حكمة وهذه النصوص هي القواعد الجنائية الموضوعية التي تتعلق بالتجريم والعقاب وهي مبدئيا وحدها التي تخضع لمبدأ أعدم رجعية النص الجنائي دون غيرها من القوانين الجنائية الشكلية التي تطبق بأثر فوري.[4]

ومبدأ عام رجعية القوانين الجنائية الموضوعية المتعلقة بالتجريم والعقاب لا يمكن تطبيقه بصفة مطلقة وإنما ترد عليه بعض الإستثناءات المتمثلة في الحالات التالية:
أ‌- حالة القوانين الجنائية الموضوعية التي يوجد بشأنها نص خاص يقضي برجعيتها

وهنا الاستثناء لا تعمل به عادة الدولة التي يعتبر فيها مبدأ الشرعية الجنائية مبدأ دستوريا ورغم ذلك فإن المشرع المغربي قد طبق هذا الاستثناء على قضية الزيوت المسمومة حيث ينص ظهير 29 أكتوبر 1959 على تطبيق عقوبة الإعدام بأثر رجعي على الأشخاص الذين يقومون عمدا أن بالانجاز بمنتوجات أو مواد معدة للتغذية البشرية وخطيرة على الإنسان[5]

ب‌- حالة النصوص القانونية التي توجد وقائيا جديدا
بالرجوع إلى الفقرة الأولى من الفصل 8 من ق.ج نجدها قد نصت على مبدأ شرعية التدابير الوقائية وقضت بأنه لا يجوز الحكم على المتهم بتدبير وقائي إلا بناءا على نص قانوني، غير أن الفقرة الثانية من نفس الفصل سمحت بتطبيق التدابير الوقائية بأثر فوري ومباشر أي أنه لا يحكم إلا بالتدابير المنصوص عليها في القانون النافذ وقت صدور الحكم لا في وقت ارتكاب الفعل الإجرامي.

ويمكن تعليل استثناء المشرع المغربي للتدابير الوقائية من دائرة مبدأ عدم الرجعية بناءا على أنها توقع على الشخص من أجل خطورته الإجرامية وبالتالي فهي لا تهدف إلى إيلام الجاني وإنما تهدف إلى إصلاحه وهو أمر مرغوب فيه ولا خشية من المساس بحربة الأشخاص، وهذا الرأي محل نظر لأن التدابير الوقائية وان كانت تهدف إلى إصلاح الجاني فإنها تنطوي بلا شك على قدر كبير من المساس بحريته الفردية.[6]

ج- حالة القوانين الجنائية المفسرة
والقانون المفسر هو النص الجديد الذي يوضح ويفصح فيه المشرع عن المعنى الحقيقي المقصود من نص قانوني سابق، فيتحد مع النص الأصلي ويندمج معه مؤلفا قاعدة واحدة[7]، والعبرة هنا بمضمون قانوني سابق المفسر فإذا عمد إلى إحداث جرائم وعقوبات فإنه لا يطبق بأثر رجعي أما إذا لم يتضمن ذلك فإنه يطبق بأثر رجعي.[8]

وجدير بالذكر أن المشرع المغربي “يمكنه أن يستغل هذا الاستثناء ـ حتى لا يصطدم مع الدستور ـ فيصدر قوانين تشمل على أحكام موضوعية جديدة تطبق بأثر رجعي تحت ستار التفسير.[9]

د- حالة النص الجنائي الأصلح للمتهم
يمكن تعريف مفهوم النص/القانون الأصلح للمتهم بأنه القانون الذي ينشئ للمدعى عليه مركزا أو وضعا يكون أصلح له من القانون القديم[10]

وقد نص المشرع المغربي على هذا الاستثناء من مبدأ عدم رجعية القواعد الجنائية في الفصل 6 ق.ج. قائلا: “في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول بين تاريخ ارتكاب الجريمة والحكم النهائي بشأنها، تعين تطبيق القانون الأصلح” للمتهم

ولتطبيق هذا الإستثناء يجب توافر شرطا هما:
1)- أن يكون القانون الجديد أصلح للمتهم
ويتحدد ما اذا كان القانون الجديد أصلح المدعى عليه/المتهم من القانون القديم بالمقارنة بين الوضعين القانونين الناشئين عنهما وفقا لمعيار موضوعي يعتمده القاضي على ضوء ضوابط محددة مستمدة من ترتيب القانون الجنائي لأنواع الجرائم وتدرج العقوبات وذلك دون أن يكون للمتهم أي خيرة في ذلك، فعقوبة المخالفة أخف من عقوبة الجنحة وعقوبة الجنحة أخف من عقوبة الحبس… وعموما يكون القانون الجديد أصلح للمتهم إذا عمد إلى إلغاء جريمة قائمة أو قرر وجها جديا جديدا الإعفاء أو التجفيف من المسؤولية، أو إذا أضاف إلى الجريمة ركنا أو عنصرا جوهريا لا تقوم إلا به، أو قرر لها تدبيرا وقائيا بدلا من العقوبة.[11]

والواقع أن عمل القاضي في هذا الصدد ليس بالعمل اليسير دائما لأنه قد تعترضه بعض الصعوبات أثناء تحديد للقانون الأصلح للمتهم فيصعب معرفة أي القانوني القديم أو الجديد أصلح للمتهم كأن يتضمن القانون الجديد مقتضيات في صالح المتهم وأخرى في غير صالحة أو في الحالة التي يرفع القانون الجديد من الحد الأقصى وينزل بالحد الأدنى أو العكس ينزل بالحد الأقصى ويرتفع بالحد الأدنى[12].

ويبدوا أن حل مشكلة مثل هذه القوانين المركبة لا يكون صعبا إذا كانت نصوص القانون الجديد قابلة للتجزئة والتقسيم دون الإضرار بغرض المشرع فيرجع على الماضي الجزء الذي يكون في صالح المتهم ولا يرجع الجزء الأسوء له.

ولكن تثار الصعوبة في الأمثلة المذكورة أعلاه إذ لم يكن من الممكن تجزئة نصوص القانون فيما ورد به من أحكام جديدة دون التعارض مع غرض المشرع وقد انقسمت الآراء في حل هذه المشكلة:

  • فذهب رأي إلى وجوب الاعتداد بالحد الأقصى للعقوبة الوارد في كل من القانونين لأنه هو الأهم، فإذا خفض القانون الجديد الحد الأقصى يكون هو الأصلح مهما يكن قد رفع الحد الأدنى للعقوبة[13].
  • ذهب رأي آخر على وجوب الاعتداد بالحد الأدنى للعقوبة الوارد في كل من القانونين لأنه هو الأهم، فهو يكشف عن تسامح القانون الجديد فإذا خفض هذا الأخير الحد الأدنى للعقوبة فيكون هو الأصلح للمتهم مهما يكن قد رفع الحد الأقصى للعقوبة.
  • ذهب رأي إلى الأخذ بالأصلح للمتهم من كل من القانونين عن طريق التجزئة وقد عيب على هذا الرأي أنه يمزج القانوني القديم والجديد ليخرج منهما قانونا جديدا لم يصدر من المشرع الأمر الذي لا يملكه القاضي.
  • ويذهب الرأي الأخير وهو الراجح في نظرنا إلى أن العبرة بظروف المتهم الذي يطبق عليه القانون فإذا كانت ظروفه تدعو إلى النزول بالعقوبة إلى أدنى حد فإن القانون الذي يكون فيه الحد الأدنى أقل يصبح هو الأصلح للمتهم وبالعكس إذا كانت ظروف المتهم ـ يحسب تقدير القاضي ـ تدعوا إلى التشدد معه فإن القانون الذي يكون فيه الحد الأقصى للعقوبة أقل يصبح هو الأصلح للمتهم.[14]

2)صدور القانون الجديد الأصلح قبل صدور الحكم النهائي في موضوع الدعوى:
ويقصد بالحكم النهائي الحكم البات الذي استنفذ جميع طرق الطعن سواء العادية أو غير العادية، وهو إن أصبح كذلك لا يبقى للمتهم المحكوم عليه، إلا إلتماس العفو من العقوبة.[15]

لكن ما حكم القوانين المؤقتة بالنسبة للقوانين الأصلح للمتهم؟

معلوم أن القوانين المؤقتة يصدرها المشرع خلال فترة زمنية محددة لمواجهة ظروف استثنائية مثل ظروف الحرب أو الأزمة الاقتصادية بحيث متى انتهت هذه الظروف ينتهي العمل بالقوانين التي صارت بسببها، لكن ما حكم الجرائم المرتكبة في ظل القوانين المؤقتة والتي لم تتم المحاكمة بشأنها إلا بعد انتهاء هذه القوانين وبداية العمل بالقوانين العادية؟.

في هذا الصدد نص الفصل 7 ق.ج على أنه “لا تشمل مقتضيات الفصلين 5 و6 القوانين المؤقتة التي تظل ولو بعد انتهاء العمل بها، سارية على الجرائم المرتكبة خلال مدة تطبيقها”.

ولهذا تشكل القوانين الجنائية المؤقتة استثناءا في مجال الاستثناء وهي القوانين الجنائية الأصلح للمتهم.[16]
المبحث الثاني : الآثار المرتبة على مبدأ الشرعية
مبدأ الشرعية الجنائية
____________________________
[1] -عبد الرؤوف مهدي، المرجع السابق، ص: 103.
[2] – عبد السلام بنحدو:، “الوجيز في القانون الجنائي المغربي، الطبعة الثالثة، سنة 1997، مطبعة دار وليلي، مراكش. ص: 122.
[3] – سمير  عالية: المرجع السابق، ص: 190.
[4] -عبد الواحد العلمي.”شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، طبعة 2007، مطبعة النجاح مطبعة النجاح، الجديدة، الدار البيضاء، ص: 89.
[5] – عبد السلام بنحدو: المرجع السابق، ص: 122 و 123
[6] – أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، طبعة 1996 القاهرة، ص 61
[7] – عبد الواحد العلمي، “شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام،  ص:91
[8] – عبد السلام بنحدو: المرجع السابق، ص: 123.
[9] – رأي الأستاذ المرحوم الدكتور المكي الستنيسي: مذكرات، في القانون الجنائي العام، الرباط سنة، 1972، ص: 38، أورده عبد الواحد العلمي، المرجع السابق، ص: 91. (أنظر ألهامش).
[10] – محمد نجيب حسني: شرح قانون العقوبات ـ القسم العام ـ المجلد الأول الطبعة الثالثة 1998، منشورات حلبي الحقوقية بيروت (لبنان) ص: 156
[11] – محمد سامي البزاوي، شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات الليبي، منشورات جامعة، قريونس، بنغازي، الطبعة الثانية، 1987 ليبيا، ص: 57
[12] – عبد السلام بنحدو: المرجع : المرجع  السابق، ص: 125.
[13] – – عبد السلام بنحدو: المرجع  السابق، ص: 125.
[14] – عبد الرؤوف مهدي: المرجع السابق، ص: 113 و 114.
[15] – عبد الواحد العلمي،”شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، المرجع السابق، ص:96
[16] – عبد السلام بنحدو، المرجع السابق، ص: 126

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.