حدود السلطة التقديرية للقاضي في تحديد نفقة المتعة

حدود السلطة التقديرية للمحكمة – الفقرة الثانية:
بالرجوع إلى المادة 190 من مدونة الأسرة نجد أن المحكمة هي المكلفة بتقدير النفقة، إلا أنها في سبيل حسن التقدير تعتمد على مجموعة من العناصر والمعايير، إذ تعد هذه العناصر بمثابة قيود على السلطة التقديرية للقاضي وهذا ما تؤكده عدة قرارات صادرة عن المجلس الأعلى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، القرار القاضي بأن “قضاة الموضوع لهم الصلاحية في تحديد قدر النفقة بعد أن تتوفر لهم العناصر الراجعة إلى اعتبار الأسعار وعادة أهل البلد وحال الطرفين كما أنهم غير مجبرين بالأخذ بالقدر المطالب به، إذ بوسعهم الحكم بأقل منه أو أكثر”[1].

وجاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء “إن النفقة تخضع في تقديرها لسلطة القضاء، غير أن هذه السلطة قد جعل لها الشرع سببا يحفظها من طغيان هذه السلطة مدا وجزرا”[2].

ولعل السلطة التقديرية تكون في أوج استخدامها عندما تنعدم تلك المعايير أو تنقص، أما في حال توفرها، فإن المحكمة ملزمة في قراراتها وأحكامها بإبراز المعيار الذي استندت عليه لإصدار حكمها، إذ يكون محل رقابة من طرف المجلس الأعلى. وفي الواقع يبقى تقدير النفقة مسألة مرتبطة بالواقع أشد ارتباط وهي مسألة موضوعية بيد أن هذا لا يعني أن سلطة المحكمة مطلقة في هذا الإطار، وإنما هي سلطة تحدها المعايير المنصوص عليها في المادتين 189 و 190 من مدونة الأسرة، مع ضرورة أخذ المحكمة بعين الاعتبار لدفوعات الطرفين معا.

وفي نفس الإطار ذهب بعض الفقه إلى القول بضرورة وضع معيار علمي دقيق لتقدير النفقة على شاكلة التعويضات في ميدان الشغل وحوادث السير[3] مع اعترافهم بصعوبة الأمر باعتباره لصيقا بشخص الإنسان وحياته، إلا أنهم نادوا ببذل الجهد لإيجاد معايير تتميز بمرونة كبيرة يترك فيها المجال للقاضي للتصرف وفقا لظروف كل نازلة على حدة بحيث يمكن إيجاد جداول أو عمليات حسابية خاصة بكل شريحة.. مع التميز بين المناطق الاقتصادية بالمغرب[4].

وأعتقد أن وضع معيار دقيق على شاكلة التعويضات المهنية وحوادث السير هو طرح صعب نظرا لأن التعويضات في مجال الشغل وحوادث السير يعود الأمر فيها إلى شركات التأمين على السيارات أو على صندوق الضمان الاجتماعي أو صندوق المعاشات، والحال أن المؤمن في وضعنا غير موجود، وإنما المتوفر هو زوج في أحسن الأحوال موظف معروف الراتب يقتطع من منبعه، وفي أسوأ الظروف رجل لا دخل له أو له دخل غير معروف، مما يكون معه طرح وضع معيار دقيق وجامد غير ذي جدوى في الظروف الحالية. أما مسألة وضع جداول أو عمليات حسابية، فتبقى صعبة التطبيق نظرا لأن فئة الفلاحين والحرفيين والصناع التقليديين معفية من الضرائب، أما التجار وأصحاب المهن الحرة فإن الحس التنظيمي التجاري لازال ضعيفا لديهم، فليست لديهم دفاتر محاسبة، وبالتالي جدولتهم ستكون صعبة جدا.

وفي هذا الإطار حاولت مدونة الأسرة الإتيان بجديد في هذا المجال حيث أقرت بتوفير الضمانات الكفيلة باستمرار أداء النفقة[5] لكنها لم توضح ما هي هذه الضمانات؟ لكن الممارسة القضائية تعتبر أن الضمانات تكمن في اقتطاع النفقة من منبع الأجر، إلا أن الصعوبة تثور حينما يتعلق الأمر بملزم غير موظف، فالمحكمة هنا تحدد أو تقدر النفقة لكنها تبقى دون تنفيذ على اعتبار أنه لا توجد أي وسيلة لإرغام الملزم على الأداء[6].

وعموما فإن الزوجة يحكم لها بالنفقة من تاريخ إمساك الزوج عن الإنفاق الواجب عليه ولا تسقط بمضي المدة (المادة 195) كما ألزم المشرع المحكمة بالبث في قضايا النفقة في أجل أقصاه شهر واحد[7]، إلا أن هذه المادة لا تحترم وذلك لإكراهات التبليغ وطول المساطر، الشيء الذي يفرغ هذا المقتضى من جدواه.

وحيث إن قانون المسطرة المدنية هو القانون العام في الإجراءات القضائية، فإن القضايا المتعلقة بالأسرة تطبق عليها المسطرة المدنية، ومن جملتها الفصل 179 هذا الأخير عرف تعديلات مهمة كان آخرها تعديل سنة 2003 حيث ثم إلغاء بعض المقتضيات وإضافة أخرى، إذ تم إلغاء الفقرات المتعلقة بإبرام الصلح، والحكمين ووضع المستحقات في الصندوق قبل إعطاء الإذن بالطلاق، وبقيت المقتضيات الأخرى دون تعديل.

هذه المقتضيات التي تجعل من البث في طلبات النفقة يتم باستعجال، مع تنفيذ الأوامر والأحكام بغض النظر عن كل طعن، بل أكثر من ذلك فإن الحكم الصادر في دعوى النفقة المؤقتة ينفذ قبل التسجيل وبمجرد الإدلاء بنسخة منه، الشيء الذي يفيد أن أهم خاصية للحكم القاضي بالنفقة هو شموله بالنفاذ المعجل بقوة القانون، إذ يجب على المحكمة القضاء به في الأحكام الصادرة في قضايا النفقة ولو لم يطلبه الخصوم.

كما أن المشرع أكد على أن البث في طلبات النفقة باستعجال، غير أن كلمة استعجال هناك من يفهمها على أساس أن الطلب يوجه إلى رئيس المحكمة بصفته قاضي الأمور المستعجلة فجهة توجيه الطلب بقيت محط نقاش خاصة في ظل النص القديم للفصل 149 من م م الذي كان يتضمن عبارة على شكل استعجالي، الشيء الذي جعل بعض الفقه والممارسين للقضاء يؤولون الأمر على أساس البث في القضايا المتعلقة بالنفقة يتم من طرف قضاء الموضوع لكن النظر فيه يكون على وجه سريع، إذ أن المشرع المغربي أعطى للمتقاضين إمكانية أخرى أكثر سرعة هادفا إلى استصدار أمر ينفذ قبل التسجيل وبمجرد الإدلاء بنسخة منه[8]، وبعد التعديل الذي تم بموجب القانون رقم 03-72 عوضت كلمة أو عبارة على شكل استعجالي بكلمة “باستعجال”، إلا أنه رغم ذلك لا يمكن الحسم في الأمر، وإنما يبقى مفتوحا وقابلا لجميع التأويلات، خاصة وأن المشرع عاد بعد ذلك وصرح بأنه “تنفذ الأوامر والأحكام في هذه القضايا..”

فاستعمال كلمة “الأوامر” و “الأحكام” دليل على أن الطلب يمكن أن يبث فيه القضاء الاستعجالي، كما يمكن أن يبث فيه قضاء الموضوع مع إجازة الاستفادة من المسطرة الاستعجالية كقضاة المستعجلات، كما حرص المشرع على أن يبث قاضي الموضوع في دعوى النفقة المؤقتة باعتباره أكثر إحاطة بالملف من غيره وفي أقرب وقت ممكن ليس فقط عن طريق تطبيق المسطرة الاستعجالية بل أيضا عن طريق تقييده لمدة زمنية قصيرة، لا يحق له تجاوزها وهي مدة شهر من تاريخ الطلب، وهذا ما يغني عن الالتجاء إلى رئيس المحكمة الابتدائية باعتباره قاضيا للمستعجلات[9].

كما تجدر الإشارة إلى أن هذه النفقة المفروضة للمطلقة، يمكن أن تقدم بشأنها طلبات الزيادة أو التخفيض منها ولكن شريطة مرور سنة على فرضها إلا في حالة وجود ظروف استثنائية (المادة 192) كتغير حال الزوج فقرا أو غنى أي تغيرها من اليسر إلى العسر أو العكس ويقصد بها كذلك تغيير الأسعار بشكل مفاجئ وملموس ارتفاعا أو انخفاضا، فإذا تحقق ذلك فرضت النفقة من جديد وقبل مضي السنة على فرضها[10].

حدود السلطة التقديرية للمحكمة في تحديد نفقة المتعة ومن هذا الصدد نتساءل عن الأسس التي تتحكم في زيادة المتعة وتخفيضها (أولا) ثم ما هي الإجراءات العملية أمام المحكمة للتعرف على الحالة المالية للزوج (ثانيا).

** أولا: زيادة المتعة وتخفيضها
إن الأسس التي تعتمدها المحكمة في تقدير المتعة، والتي سبق ذكرها، هي التي تساهم في زيادة المتعة وتخفيضها حيث يتم الاستناد على الوثائق المدرجة بالملف[11]، وخاصة منها: المثبتة لدخل الزوج والمعلومات المدونة بالمحضر وغيرها من الوثائق التي يتم بواسطتها إثبات كون الطلاق كان مبررا من عدمه ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن التعديل الذي لحق الفصل مكرر 52 من م ح ش الملغاة بموجب التعديلات 10 شتنبر 1993 أصبح كالتالي: “إذا ثبت للقاضي أن الزوج طلق بدون مبرر مقبول تعين عليه أن يراعي عند تقدير المتعة ما يمكن أن يلحق الزوجة من أضرار” وبذلك أصبح متعينا على قسم قضاء الأسرة عند تقدير المتعة أن يأخذ بعين الاعتبار خطأ الزوج في إيقاع الطلاق ومراعاة الضرر اللاحق بالزوجة، فمتى تبين له أن هناك تعسفا من قبل الزوج في إيقاعه، يتم الحكم بمبالغ مرتفعة كمتعة للتخفيف من حدة هاته الأضرار، مما يجعل اعتبار الطلاق عملا من الأعمال التي تدخل في نطاق المسؤولية التقصيرية[12]، وفي هذه الحالة نكون في صدد حالة زيادة المتعة وذلك حسب السلطة التقديرية لقاضي الموضوع في تقدير التعسف، وفي بعض الحالات يتم تخفيضها إذا كانت الزوجة هي السبب في انحلال العلاقة الزوجية مما أدى إلى إلحاق الضرر بالزوج سواء قيامها بممارسات لا أخلاقية أو غير ذلك فإن تقدير المتعة يكون زهيدا، ولكن هذا لا يؤدي إلى حرمانها منها، كما أن إلقاء عبء إثبات العناصر الأساسية في تقدير المتعة على الزوجة بمثابة حيف لاحق بها إذ أنه في غالب الأحيان ما تكون الزوجة الأكثر حرصا على استمرارية العلاقة الزوجية وعدم تفككها، وما يلاحظ من خلال العديد من الأحكام القضائية أنها تعتمد بالأساس على الحالة المالية للزوج أكثر من غيرها من معايير التقدير، فما هي يا ترى الإجراءات العملية أمام المحكمة للتعرف على الحالة المالية للزوج؟

** ثانيا: الإجراءات العملية أمام المحكمة للتعرف على الحالة المالية للزوج:
يعتبر دخل الملزم بأداء المتعة أهم عنصر يدخل في تقديرها، إذ يتعين أن يكون ذلك التقدير على أساس المداخيل التي حصل عليها بهذه النفقة، من مرتب أو أجر أو أرباح، أو غير ذلك من مصادر الرزق ولا ينظر إلى ما يكون له من ثروة لا تدر عليه مداخيل[13].

كما أن المحكمة تتوفر على صلاحية تعيين خبير للتأكد من الوضعية المادية للزوج واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحصول على المعلومات المنتجة في تحديد الدخل بما في ذلك سماع الشهود والاستعانة بتحريات النيابة العامة وطلب المعلومات التي في يد أية جهة حكومية أو غير حكومية مع مراعاة الأحكام الخاصة بسرية الحسابات بالبنوك بخصوص الموظف المعروف الراتب إلا أنه يصعب على المحكمة تحديد الحالة المالية للملزم بالمتعة الذي لا دخل له أو له دخل غير معروف أو من فئة الفلاحين والصناع التقليدين لأنهم معفيون من الضرائب، وكذلك أصحاب المهن الحرة والتجار لأن الحس التنظيمي التجاري لازال ضعيفا لديهم، فليست لديهم دفاتر محاسبة. ففي هذه الحالة يتم تحديد المتعة حسب السلطة التقديرية للقاضي دون إلحاق الضرر بأي من الطرفين مع مراعاة الضمانات التي يخولها المشرع للمحكمة في هذا التقدير.
_________________________________________
المبحث الثاني: تقدير نفقة المتعة والضمانات الإجرائية في تقديرها ووسائل تنفيذها
نفقة المتعة حسب الحالة الاجتماعية
[1] قرار 526 صادر بتاريخ 3/4/90 في ملف عدد 7236/88 أورده محمد أمجاط في بحثه المنشور بمجلة الملحق القضائي عدد 24 لسنة 1991، ص 64.
[2] قرار 314 صادر بتاريخ 28 فبراير 1990 ملف شرعي عدد 89/1094 منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 64/65. ص: 173 وما بعدها.
[3] أمجاط محمد الصغير مرجع سابق ص 66.
[4] نفس المرجع السابق.
[5] المادة 191 من مدونة الأسرة.
[6] لقاء مع الأستاذ محمد زبارنة قاضي بقسم قضاء الأسرة بفاس.
[7] المادة 190 من مدونة الأسرة.
[8] محمد السعيد بن سلام، حول تطبيق التعديل الوارد في الفصل 179 من قانون المسطرة المدنية مجلة المحامي عدد 12 لسنة 1988 ص 30.
[9] عبد اللطيف هداية الله: القضاء المستعجل في القانون المغربي مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 1998 ص 458 و ما بعدها.
[10] محمد صادق: تقدير نفقة الزوجة فقها، تشريعا وقضاء بحث نهاية التمرين بالمعهد الوطني للدراسات القضائية سنة 1997. 1999 ص 50.
[11] ذ. محمد مصطفى الزحيلي، متعة الطلاق، مجلة منار الإسلام العدد الخامس، مارس 1982 ص 85.
[12] محمد ابن معجوز، أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية وفق مدونة الأحوال الشخصية، الجزء الأول، الطبعة الثانية 1994 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء ص 312.
[13] ابن معجوز مرجع سابق ص 115.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.