ترجيح اللعان على الخبرة الطبية في القانون الوضعي

موقف القانون الوضعي من تعارض اللعان مع الخبرة الطبية  – المبحث الثاني:
طبقا لمنطوق المادة 153 من مدونة الأسرة التي تنص على ما يلي:

“يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية.
يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، لا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة تفيد القطع بشرطين:
ـ إدلاء الزوج المعني بالأمر بدلائل قوية على ادعائه.
ـ صدور أمر قضائي بهذه الخبرة.”

كل طفل يولد أثناء فترة العلاقة الزوجية المحددة في المادة 154 يثبت نسبه إلى الزوج بقرينة قانونية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس من أي كان ما عدا الزوج نفسه الذي يمكنه أن يطعن في نسب الطفل إليه عن طريق المطالبة باللعان أو بخبرة طبية تفيد القطع بوجود أو عدم وجود العلاقة البيولوجية بينه وبين الطفل المعني بالأمر وذلك مثل الحمض النووي الذي يعبر عنه بالبصمة الوراثية ولا يقبل من الزوج طلب الخبرة الطبية إلا إذا عزز ادعائه بقرائن قوية ترجح صدقه.

ونشير إلى أن أول مرة تم فيها اللجوء إلى تحليل الجينات الوراثية لإثباث النسب في المغرب كان سنة 1994[1]

ولعل الملاحظ من خلال المادة المومأ إليها أعلاه أن المشرع المغربي لم يشر إلى مصطلح البصمة الوراثية وإنما أشار إلى الخبرة وهي من باب الكل الذي يتضمن الجزء[2] إلا أن المقصود بهذه الخبرة أساسا هي خبرة الطبيب الذي يعتمد على أحدث التطورات العلمية في هذا المجال والمرتكزة على البصمات الوراثية المعروفة في علم الجينات وهذا ما تم تأكيده في الدليل العملي لمدونة الأسرة الذي أصدرته وزارة العدل في معرض تفسير مضمون المادة 153 المومأ إليها أعلاه[3]

فحسب هذا النص التشريعي نحن أمام وسيلتين لنفي النسب: اللعان وهو وسيلة شرعية قرآنية والخبرة الطبية (البصمة الوراثية) وهي وسيلة علمية حديثة لا تتعارض مطلقا مع أحكام الشريعة الإسلامية[4]

وأمام النتائج الباهرة التي حققتها هذه الأخيرة والتي تقدم لنا دليلا مؤكدا في نفي النسب قد يلجأ الزوج الذي يريد التنصل من ثبوت نسب الطفل منه إلى إجراء اللعان إذا ما توفرت شروطه وكأثر له ينتفي النسب عنه ويلحق الطفل بأمه، وهكذا يبدو من الوهلة الأولى وجود تعارض بين لجوء الزوجة لاستخدام البصمة الوراثية كوسيلة لإثباث مولودها من الزوج وبين طلب الزوج إجراء اللعان وما يترتب على إجرائه من التفريق الأبدي بين الزوجين وإلحاق الولد بالأم، فما الحل الواجب الإتباع عند حصول مثل هذا التعارض؟ وهل يمكن إعتماد الوسيلتين معا والتوفيق بينهما ؟

بالرجوع إلى نصوص مدونة الأسرة يتبين لنا بجلاء أن المشرع المغربي لم يتعرض لهذه المسألة بنص صريح، إلا أن الواقع العملي أفرز عدة أراء فقهية يمكن اختزالها في ثلاث مواقف أساسية:

(أولا) الموقف المرجح للعان على الخبرة الطبية:
موقف يرى أن البصمة الوراثية تحل محل اللعان عند التنازع أو التعارض بينهما لأن نتائجها يقينية أما اللعان فمبني في أساسه على الشك لا اليقين،ويعتبرون أن البصمة الوراثية أقوى بكثير من القرائن بل حتى من الشهادة التي تمثل الصدق والكذب وحتى من الإقرار، بل الأكثر من ذلك أن البصمة الوراثية تصلح لأن تكون مانعا من قبول طرق الاثباث التقليدية دون العكس، باعتبارها دليل مادي يعتمد العلم دون العكس، فهي بمثابة الشاهد الصامت، تعتمد قواعد علمية ثابتة ويقينية يمكن من خلالها الجزم بإثباث البنوة أو نفيها دون تأثير العواطف، ويبررون قولهم هذا بقولهم أن وسائل إثباث النسب ليست أمورا تعبدية حتى تخرج من دائرتها البصمة الوراثية وإعمال هذه الأخيرة لا يعني إهمال باقي الوسائل الشرعية الأخرى[5]

ويتجه البعض للقول بأن اللعان بشروطه الصارمة يكاد يصبح مستحيلا بالنسبة للزوج وذاك ما أراد به الشارع، حيث جعله عسيرا على الأزواج، وهذا ما يبرر عدم استجابة القضاء المغربي للعديد من دعاوى اللعان المرفوعة إليه، وعلى حد قول الأستاذ يوسف وهابي أنه خلال مراجعته للأحكام الشرعية في موضوع  نفي النسب لم يقف على أي حكم أو قرار صادر عن القضاء المغربي استجاب فيه لدعوى لعان، فعندما يريد الزوج نفي نسب الابن إليه يواجهه القضاء بأنه كان عليه أن يسلك مسطرة اللعان وحينما يسلك هذه الأخيرة ترفض دعواه لعدم توفر شروط اللعان الفقهية سواء فيما يتعلق بالأجل أو الاستبراء أو الاعتراف الضمني بالولد.

وفي نفس الاتجاه يعتبر بعض الفقه أن اللعان إنما يقوم على الظن وعلى الشك ويحتمل أن يكون الزوج كاذبا في الملاعنة، وعليه يجب إفساح المجال أمام الزوجة لإثباث النسب بدليل مؤكد هو الخبرة الطبية لإسقاط دليل ظاهر وظني هو اللعان وفي نفس السياق يرى البعض ضرورة ترجيح الخبرة الجينية على غيرها من الوسائل الشرعية الأخرى كلما توفرت شروط معينة ومنها:

  1. إسناد الخبرة الجينية إلى ذوي الثقة والاختصاص
  2. الحرص على أن يتم أخد عينات المقارنة بطريقة تقنية وسليمة
  3. أن تعزز هذه الخبرة قرائن قوية ومنسجمة[6]

وفي هذا المضمار أكد مفتي الجمهورية التونسية أمام المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، حول موضوع حجية البصمة الوراثية في إثباث ونفي النسب، بأن هذه الحجة تكون سببا مغنيا عن اللعان ذلك أن الله عز وجل يقول: ” والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين”

فالزوج يلجأ لإجراء اللعان لنفي نسب الولد عنه عند فقد من يشهد له بما رمى به زوجته من أن الحمل ليس منه ” ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم “، فمع التقدم العلمي في هذا الميدان لم يبقى الزوج وحيدا لا سند له، بل أصبح له الشاهد وهو الخبرة التي ستنجز في هذا الشأن[7]
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
_____________________________________
Amira HORCHANI : APPLICATION DES EMPREINTES GENETIQUES DANS L’ETABLISSEMENT DE LA FILIATION PARENTALE : A PROPOSE DE 16 DOSSIERS ANALYSES A L ‘INH DE RABAT ; op.cit P46 [1]
[2] محمد الكشبور- المرجع السابق- ص 200
[3] -خالد البرجاوي، مقال بعنوان ” تطور قواعد النسب في القانون المغربي” مجلة قضايا الأسرة من خلال اجتهادات المجلس الأعلى 2007 ص 259
[4] محمد الكشبور- المرجع السابق- ص 213
[5] محمد كفيل، المرجع السابق، الصفحتان 52 و 53
[6] يوسف وهابي يوسف وهابي، مقال بعنوان ” تحاليل البصمة الوراثية ( أ.د.ن A .D.N) ودورها في إثبات أو نفي النسب: قراءة في مواقف القضاء والتشريع (مدونة الأسرة): دراسة مقارنة، مجلة الملف|، العدد 8 مارس 2006، ص 26
[7] أحمد ميدة ومحمد رافع: إثباث النسب بين الوسائل الشرعية والتطور العلمي (بحث نهاية التمرين بالمعهد العالي للقضاء)، الفوج 33 سنة 2003-2005 ص 81

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.