الخبرة الطبية في تحديد النسب

الإطار النظري لتعارض اللعان مع الخبرة الطبية  – الفرع الأول:
قد أثارت إشكالية تعارض اللعان مع الخبرة الطبية فيما يتعلق بالطعن في فراش الزوجية الذي يعتبر حجة قاطعة على ثبوت النسب حسب منطوق المادة 153، جدلا مستفيضا على مستوى الفقه الإسلامي والقانون الوضعي بحيث أن الأول يستبعد العمل بالخبرة الطبية ويعتبر أن الطريق الوحيد لنفي النسب هو سلوك مسطرة اللعان، بينما الثاني يعتمد الخبرة الطبية كوسيلة علمية حديثة تكاد تكون قطعية، وعادة ما ينصرف عن تطبيق مسطرة اللعان لصعوبة توافر شروطها كما حددها الفقه الإسلامي علاوة على اعتبارات أخرى سيأتي ذكرها في محلها.

المبحث الثاني: تعارض اللعان مع الخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
قبل التطرق لموقف القانون الوضعي من تعارض اللعان مع الخبرة الطبية (المطلب الثاني) يستحسن بنا أن نعرف بداية ماهية الخبرة الطبية (المطلب الأول) باعتبار اعتمادها في قضايا النسب من أهم مستجدات مدونة الأسرة.

المطلب الأول: ماهية الخبرة الطبية وحجيتها
لمعرفة حجية الخبرة الطبية في الاثباث، وتقييم هذه الحجية، يستوجب منا الأمر أن نعرف(أولا) ما المقصود بالخبرة الطبية لأنه بمعرفة مفهومها يتيسر علينا معرفة مدى حجيتها في الاثباث (ثانيا)

أولا: ماهية الخبرة الطبية:
لعل الملاحظ في هذا الإطار أن مشرع مدونة الأسرة رغم إشارته للخبرة الطبية واعتبرها ضمن وسائل الاثباث إلا أنه لم يورد تعريفا لها ولم يبين المقصود منها، ولعله ترك تلك المهمة إلى الفقه.

ويكمن القول أن الخبرة الطبية تدخل ضمن المفهوم الواسع للخبرة القضائية، ومن المتعارف عليه أن الفرع يتبع الأصل، وهذه العلاقة نشأت من كون الخبرة القضائية لها مجالات إعمالها ومن بينها الطب، فاقترانا بهذا المجال سميت بالخبرة الطبية.

وقد نص المشرع على الخبرة الطبية صراحة في عدد من المواد من مدونة الأسرة والمتمثلة في المواد 20، 23، 65، 153، 222 أو أشار إليها ضمنيا كما هو الحال في المواد 156، 158 و 16….

وجدير بالذكر أن الخبرة الطبية ليست على شاكلة واحدة بل تتنوع بالنظر لمجالات إعمالها، وبالرجوع إلى مدونة الأسرة يلاحظ أن الخبرة الطبية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: الأول ويعرف بالخبرة الطبية العادية، مثل الشهادة التي يقدمها الأطباء لإثباث الخلو من الأمراض المعدية،…. أما النوع الثاني فهو ما كان يعرف بفحص الفصائل الدموية وكان يستعمل لنفي النسب، أما النوع الثالث فيطلق عليه البصمة الوراثية وسنقتصر على هذا النوع الأخير دون غيره[1]

1) البصمة الوراثية كوسيلة لإثباث النسب ونفيه:
على إثر اكتشاف حمض معين في جسم الإنسان، أمكن في ذات الوقت اكتشاف جزء معين في تركيب هذا الحمض، ويتميز هذا الجزء بأنه يحمل الصفات الوراثية الخاصة بكل إنسان والتي تظل ملازمة له مدى الحياة، وقد سميت هذه الصفات بالبصمة الوراثية، فما هي البصمة الوراثية؟ وما حجيتها في إثبات النسب ؟ وما هي القضايا التي تستطيع حسمها، وعجزت الوسائل التقليدية للطب أن تجد لها حلا؟

المفهوم اللغوي للبصمة الوراثية:
البصمة مشتقة من البُصْم وهو : فوت ما بين طرف الخنصر إلي طرف البنصر يقال ما فارقتك شبراً ، ولا فتراً ، ولا عتباً ، ولا رتباً، ولا بصماً، ورجل ذو بصم أي غليظ البصم وبصم بصماً: إذا ختم بطرف إصبعه والبصمة أثر الختم بالإصبع

فالبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع وهي: الانطباعات التي تتركها الأصابع عند ملامستها سطحها مصقولاً، وهي طبق الأصل لأشكال الخطوط الحلمية التي تكسو جلد الأصابع وهي لا تتشابه إطلاقاً حتى في أصابع الشخص الواحد .

أما في مفهومها الاصطلاحي
الذي أورده المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي هو أنها : ” البنية الجينية نسبة إلى الجينات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه”[2]

وبالنسبة لتعريفها العلمي:
هي التركيب الوراثي الناتج عن فحص الحمض النووي لعدد واحد أو أكثر من أنظمة الدلالات الوراثية”[3]

وهناك من عرف البصمة الوراثية بكونها تلك المادة الوراثية التي تنقل الرسالة الوراثية من جيل لأخر وتوجه نشاط كل خلية، هي عبارة عن جزئيات عملاقة تكون ما يشبه الخيوط الرفيعة المجدولة تسمى الحمض النووي الريبوزي المختزل أو الـ[4]ADN  وتحتوي هذه الرسالة الوراثية على الأساس المادي لكل الصفات الوراثية، بداية من لون العينين حتى أدق التركيبات الموجودة بالجسم[5]

وقد عرفها البعض بأنها عمل فني يتمثل في فحص الحامض النووي لأحد المواد السائلة أو غيرها من جسم الإنسان للتعرف على صفاته الوراثية ومقارنتها إن اقتضى الحال بفاصل جسم آخر لتقرير مطابقته له أو علاقتها به من عدمها ومن الأكيد أن هذا العمل يتوجب اللجوء فيه إلى أهل الاختصاص[6]

ولم يكن أحد يعرف البصمة الوراثية حتى سنة 1985 حيث ثم استخدامها في أول حالة بشرية لتحديد الأبوة لأحد الأشخاص بناء على طلب مكتب الهجرة لفض نزاع في مكتب الجنسية، وأول من أطلق اصطلاح البصمة الوراثية هو البروفيسور “اليك جيفري”[7] عالم الوراثة بجامعة ليستر بلندن، حينما أعد بحثا أوضح فيه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات و تعيد نفسها في تتابعات عشوائية، وبعد عام واحد اكتشف جيفري أن هذه التتابعات مميزة لكل فرد، ذلك أن كل إنسان على حدى بصمته الخاصة التي لا تتشابه أبدا مع أي إنسان آخر، ذلك أن الحمض النووي يوجد في أنوية الخلايا في صورة كروموزومات مشكلة وحدة البناء الأساسي لها

الجينوم أو البصمة الوراثيةوقد دلت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان

(46) من الصبغيات (الكروموسومات) تتكون من المادة الوراثية – الحمض النووي الريبوري اللأكسجيني – والذي يرمز إليه بـ (ADN) أي الجينات الوراثية، وكل واحد من الصبغيات يحتوي علي عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلي مائة ألف مورثة جينية تقريباً، وهذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، بالإضافة إلي وظائف أخرى تنظيمية للجينات[8]

وتكمن المعلومات الوراثية لأي خلية من تتابع الشفرة الوراثية، أي تتابع القواعد النتروجينية الأربعة التي وهبها الله للحياة، وهي ( Aالأدينين)، ( Gوالجوانين)،

( Cوالسيتوزين)، ( Tوالثيامين) التي تكون المادة الوراثية في صورة كلمات وجمل تقوم بتخزين المعلومات الوراثية في لوح محفوظ مسئول عن حياة الفرد[9]

وقد جرى إطلاق عبارة ( بصمة وراثية ) للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذاً من عينة الحمض النووي المعروف باسم (ADN)  الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه، إذ _ وكما سبق _ أن كل شخص يحمل في خليته الجينية (46) من الصبغيات، يرث نصفها وهي( 23 ) صبغي عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الأخر وهي( 23) صبغي يرثها عن أمه بواسطة البويضة[10]، وبهذا الاختلاط[11] يكتسب الشخص صفة الاستقلالية عن صبغيات والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من صبغيات والديه، فضلاً عن غيرهما بحيث إن إمكانية التشابه بين شخصين في هذه السلاسل تكون معدومة، بمعنى أن لكل إنسان على وجود الأرض بصماته الوراثية الخاصة، باستثناء التوائم المتطابقة[12].

وتبقى معرفة البصمة الوراثية لشخص ما تتم عن طريق فحص الحمض النووي لأحد المواد السائلة في جسمه ( كالدم، واللعاب، والمني…) أو لأحد الأنسجة في الجسم (كاللحم أو الجلد أو العظام أو الشعر أو الأسنان…)[13]

وهكذا أمكن الاستفادة من هذا الاكتشاف العلمي العظيم في التوصل إلى ما إذا كان الأثر الآدمي الخاضع للفحص يخص شخص معينا أم لا، وبمعنى آخر أمكن اعتبار هذا الفحص دليلا حقيقيا أو إثباتا بطريقة أكيدة في كثير من المجالات على رأسها مجال النسب.
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
_____________________________________
[1] محمد كفيل، إعمال الخبرة الطبية في دعاوى النسب، مجلة المحاكم المغربية، عدد 118 يناير- فبراير 2009، ص 44
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية
[2] ـ تعريف المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي  للبصمة الوراثية أورده خليفة علي الكعبي: في مؤلفه “البصمة الوراثية و أثرها في الأحكام الفقهية: دراسة فقهية مقارنة” دار الجامعة الجديدة للنشر الإسكندرية 2004 ص 29
[3] محمد الكشبور: “البنوة والنسب في مدونة الأسرة- قراءة في المستجدات البيولوجية،دراسة قانونية وشرعية مقارنة-” طبعة 2007 ص 190 نقلا من مقدمة في فحص الحمض النووي الديوكسي ريبوزي في مجال البحث الجنائي، الناشر سي آر سي، 1997، ص: 161 ـ 173
[4] Acide Désoxyribo Nucléique
[5] عائشة سلطان إبراهيم المرزوقي: “إثبات النسب في ضوء المعطيات العلمية المعاصرة- دراسة فقهية وتشريعية مقارنة- “رسالة لنيل درجة  الدكتوراه، قسم الشريعة الإسلامية،  2000 القاهرة، دار العلوم ص 301
ماجدة ابن جعفر،مقال بعنوان تطور وسائل الإثبات في مادة النسب،منشور بمجلة القضاء والتشريع، العدد 1، جانفي 2002 ص 73   [6]
[7] جميلة أوحيدة، المرجع السابق، ص 42
[8] يوسف فلالي محسن، إثباث النسب ونفيه بالتحاليل الطبية، مقارنة تشريعية وفقهية وقضائية- مقال منشور بمخلة قضايا الأسرة من خلال اجتهادات المجلس الأعلى- الندوة الجهوية الثانية، القصر البلدي، مكناس 8، 9 مارس 2007 ص 269
[9] عائشة سلطان إبراهيم المرزوقي:المرجع السابق، ص 301
[10] محمد المختار السلامي (مفتي جمهورية تونس سايقا): التحليل البيولوجي للجينات البشرية وحجيته في الاثباث، أشغال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، المنعقد بجامعة الإمارات العربية المتحدة، المجلد 2، فندق هلتون العين 5ـ7 مايو، 2002 م ص 470 منشور على الموقع الالكتروني التالي: http://slconf.uaeu.ac.ae/prev_conf/2002/2.pdf
[11] ويدل علي ذلك قول اله تعالي (( أنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج )) والأمثال هي الاختلاط وأنظر الآية في صورة الإنسان ، رقم ( 2 )
[12]محمد محمد أبو زيد، دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب، بحث منشور في مجلة الحقوق (الكويت) العدد الأول، السنة ص 279.
[13] يوسف فلالي محسن، إثباث النسب ونفيه بالتحاليل الطبية، مقارنة تشريعية وفقهية وقضائية- المرجع السابق- ص 269

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.