الإعتماد على الفحص الطبي لإثبات النسب

الإطار القضائي لتعارض اللعان مع الخبرة الطبية – الفرع الثاني:
إذا كانت القاعدة العامة أن النسب لا يحتاج إلى تأكيده، فهو ثابت مادامت العلاقة الزوجية قائمة، أما إذا نازع أصحاب المصلحة من أب، أو ورثة، أو غيـرهم في نسب الابن وكان موضوع هذا النزاع نفي النسب فإن هذا الأخير لا يكون إلا بحكم قضائي طبقا للمادة 151 من مدونة الأسرة الجديدة[1]

وسوف نرى من خلال الأحكام القضائية الصادرة في الموضوع أن القضاء عموما، وسيرا على النهج الذي اختطه الفقه الإسلامي، لا يحكم بنفي النسب بكل سهولة ويسر، وذلك تأكيدا للسياسة الشرعية المتبعة في هذا المجال، التي كثيرا ما تعتبر النصوص القانونية المتعلقة بالنسب عموما في صالح المرأة والولد أو الحمل، وذلك لضرورة الاستقرار وتثبيت مركز الأسرة داخل المجتمع.

وقد فعل المشرع خيرا حينما جعل الخبرة الطبية إذا صدرت بأمر قضائي كافية لإثبات أو نفي النسب، وذلك انسجاما مع التطور العملي الكبير الذي يعرفه الطب في مجال إثبات النسب ونفيه، بعدما كان في السابق في ظل مدونة الأحوال الشخصية لا يقبل إلا بالوسائل المقررة شرعا، والتي لم تكن من بينها الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات أو نفي النسب، مما جعل القضاء سابقا لا يأخذ أبدا بالخبرة الطبية كوسيلة من وسائل إثبات النسب من فقهائنا القانونيين بضرورة اعتماد هذه الوسيلة لإثبات أو نفي النسب، وذلك لكونها وسيلة تحسم الأمر بصفة يقينية.

والملاحظ من خلال الاطلاع على الأحكام والقرارات التي تم التوصل بها من خلال بحثنا في الموضوع، أن كل من محاكم الموضوع والقانون أبدت ممارسة ايجابية من خلا ل الاعتداد والاعتماد على الخبرة الطبية كوسيلة شرعية لإثبات النسب ونفيه في مقابل انصراف العمل القضائي عن تطبيق اللعان( فما هو السبب وراء ذلك؟)

المبحث الأول: الاعتماد على الخبرة الطبية
أثارت إشكالية اعتماد الخبرة الطبية كوسيلة شرعية لإثبات أو نفي النسب في مدونة الأحوال الشخصية السابقة، جدلا واسعا ما بين جل الفقهاء المؤيدين لضرورة اعتماد الخبرة الطبية كوسيلة من الوسائل المقررة شرعا لإثبات أو نفي النسب ــ تماشيا مع المنطق وروح الحداثة العـقـلاني الذي أصبح يميز عالمنا وبالأخص الثورة التي عرفها الطب الحديث في مجال ثبوت النسب أو نفيه عن الأب من خلال الخبرة الجـينـية، التي تحدده بشكل يقـيني ــ وما بين الآراء الفقهية التي كانت تدعو لاستبعاد الخبرة الطبية كوسيلة لإثبات أو نفي النسب، ومما لا شك فيه أن هذا الخلاف في وجهات النظر الفقهية حول هذه الوسيلة الجديدة  كان له بالغ الأثر على القضاء المغربي، مما دفعه إلى إصدار مقررات تختلف باختلاف قناعات أصحابها، مما يؤكد  أن هذا القضاء تعامل معها بنظرة ذاتية وليست موضوعية[2]

والملاحظ أنه في ظل مدونة الأحوال الشخصية السابقة غالبا ما كان القضاء يستبعد العمل بالخبرة الطبية في إثباث النسب، معللا موقفه بمنطوق بنصوص مدونة الأحوال الشخصية [3]، التي تنص على أنه (” يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب “)، وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي، وأن ما جاءت به مدونة الأحوال الشخصية  خاص بما إذا بقيت الريبة في الحمل بعد انقضاء سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة لمعرفة ما في البطن هل هو علة أم حمل[4].

إلا أن المشرع المغربي تدارك هذا الفراغ التشريعي من خلال مدونة الأسرة الجديدة في عدد من المواد خاصة المادة 153 وذلك بقبوله للخبرة الطبية كوسيلة شرعية لإثبات أو نفي النسب وقيدها بشرطين أساسيين: شرط إدلاء الزوج بدلائل قوية على ادعائه وصدور أمر قضائي بها، وذلك إحساسا منه بضرورة مواكبة التشريع لمستجدات هذا العصر وتقنياته الحديثة في مجال الطب الشرعي ــ خصوصا ما عرفه علم الهندسة الوراثية من تطورات باهرة، بات معها يقينا إثبات النسب أو نفيه ــ ولم يكن لهذا التشريع أن يدير ظهره لهذه التطورات الباهرة والرهيبة، بعدما تعالت أصوات فقهية كثيرة تطالب بضرورة هذه المواكبة، حتى لا نكون خارج الزمن، لاسيما وأن الأمر يتعلق بوسيلة إيجابية تقينا مرارة نسبة الولد لغير أبيه واختلاط الأنساب، وتحسم في معرفة الأب والأم البيولوجيين للولد المزداد بصفة يقينية.

وهكذا يبدوا أن القضاء المغربي قد تعامل بنوع من الليونة مع هذه الوسيلة تفعيلا منه لمجموعة من النصوص القانونية المتضمنة بمدونة الأسرة، وهذا ما سنحاول إبرازه من خلا مجموعة من الأحكام والقرارات التي تم الاطلاع عليها، والتي في مجملها تتجه إلى الأخذ بالخبرة الطبية، بدءا من الأحكام الابتدائية والقرارات الاستئنافية، حتى قرارات المجلس الأعلى.

وهكذا ذهبت المحكمة الابتدائية بالرشيدية في إحدى حيثيات الحكم الصادر عنها بتاريخ<28/9/2006 “… وحيث إن سلوك الزوج لإجراء طلب الخبرة بخصوص نسب البنت… يغني عن مناقشة الشروط الفقهية لممارسة اللعان للخيار الذي تخوله له المادة 153…. وحيث خلص تقرير الخبرة المنجزة إلى أن السيد… ليس هو الأب البيولوجي للطفلة …ابنة السيدة …، وان بنوته للبنت مستحيلة استحالة تامة…”[5]

وقد ساير العمل القضائي الموقف الفقهي القاضي باعتبار الخبرة الجينية ذات حجية قاطعة حيث ورد في إحدى حيثيات الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بالعرائش بتاريخ 12/04/2005 ” حيث انه من المعلوم وفق ما توصل إليه العلم الحديث أن نتائج الخبرة الجينية  لتحديد الروابط البيولوجية بين الأفراد والمنصبة على تحليل الحامض النووي أو ما يصطلح عليه ب ADN، تعتبر صحيحة ويقينية بدرجة لا يرقى إليها الشك ولا تحتمل الخطأ إلا بنسبة ضعيفة جدا لا ترقى إلى درجة الاعتبار…”[6]

وقد أقر المجلس الأعلى في القرار المؤرخ في 18/01/2006  العمل بالخبرة الطبية  في ثنايا حيثياته ” حيث صح ما عابه السبب ذلك أن الفراش يكون حجة قاطعة على ثبوت النسب شرط تحقق الامكانيين العادي والشرعي والثابت من أوراق الملق أن الطاعن نازع في نسب الابن إليه وادعى أنه لم يتصل بالمطلوبة منذ ازدياد الأول أي أنه استبرأها بعد هذا الوضع وأدى يمين اللعان على ذلك في حين رفضت المطلوبة أداءها رغم توصلها كما رفضت الحضور أثناء أدائه اليمين ورفضت كذلك الخبرة والتمس إجراء خبرة قضائية لإثبات عدم نسب المولود إليه وتمسك بها والمحكمة لما عللت قرارها بأن الخبرة ليست من وسائل نفي النسب شرعا في حين أن المادة 153 من مدونة الأسرة النافدة المفعول بتاريخ القرار المطعون فيه والواجبة التطبيق والتي تنص على الخبرة القضائية من وسائل الطعن في النسب إثباتا أو نفيا تكون قد أقامت قضائها على غير أساس ولم تعلله تعليلا سليما مما يعرضه للنقض”[7]

كما  أكد المجلس الأعلى بتاريخ 9 مارس 2005 الالتجاء إلى إجراء خبرة طبية، حيث جاء في هذا القرار أنه « وأمام اختلاف الزوجين بشأن تاريخ ازدياد الابن المذكور، فإنه كان على المحكمة أن تبحث في جميع وسائل الإثبات المعتمدة شرعا منها الخبرة التي لا يوجد نص قانوني صريح يمنع المحكمة من الاستعانة بها والمحكمة لما اكتفت بالقول ردا على ملتمس إجراء الخبرة، بأن ما تمسك به الطالب يخالف أصول الفقه والحديث الشريف، دون اعتماد نص قاطع في الموضوع، فإنها لم تضع لما قضت به أساسا وعرضت قرارها بذلك للنقض »[8].
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
_____________________________________
[1] ــ محمد الأزهـر، شرح مدونة الأسرة، ( الزواج ـ انحلال ميثاق الزوجية وآثاره ـ الولادة ونتائجها)، مطبعة دار النشر المغربية عين السبع الدار البيضاء، 2008 ص 364
[2] ــ محمد كفيل، المرجع السابق، ص 58
[3] ــ مدونة الأحوال الشخصية، الفصل 91،  دار الرشاد الحديثة الدر البيضاء،  سنة 2003.
[4] ــ مدونة الأحوال الشخصية، الفصل 76،
[5] ـ حكم ابتدائي صادر عن المحكمة الابتدائية بالرشيدية بتاريخ 28/9/2006، الملف عدد 245/06/3، منشور بكتاب المنتقى من عمل القضاء في تطبيق مدونة الأسرة، المرجع السابق، ص 255
[6] ـ  حكم ابتدائي صادر عن المحكمة الابتدائية بالعرائش بتاريخ 12/04/2005 ، الملف عدد 242ـ04/5، منشور بكتاب المنتقى من عمل القضاء في تطبيق مدونة الأسرة، المرجع السابق، ص 250
[7] ــ قرار المجلس الأعلى المؤرخ في 18/01/2006، الملف الشرعي عدد:108/2/1/2005، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 66، ص 69 وما بعدها.
[8] ــ قرار عدد 156 بتاريخ 9 مارس 2005، منشور بمجلة قضاء الأسرة، منشورات وزارة العدل، العدد الأول، السنة ص 91.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.