موقف القانون الوضعي المرجح للخبرة الطبية على اللعان

(ثانيا) الموقف المرجح للخبرة الطبية على اللعان:
وذهب هذا الفريق إلى عدم تقديم الأدلة العلمية كالبصمة الوراثية على اللعان لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تعطيل نص قطعي في كتاب الله وإلحاق الحيف والظلم بالزوجة وحرمان الطفل من بعض الحقوق التي خولها له الشرع بواسطة اللعان.

وشكك بعض الفقه[1] في حجية البصمة الوراثية، التي لا تزال في طور التجربة والاختبار، مع إقرار أهل التخصص والمعرفة من الخبراء باحتمال وقوع الخلل من الناحية الفنية أتناء إجراء التحليلات، ومن ثم لم تتفق عليها حتى محاكم الدول الأوروبية التي اكتشفتها، وفضلا عن ذلك فإن الشارع يتشوف إلى إثباث النسب ولا ينفيه إلا بأقوى الأسباب وهو اللعان.

وحول ما ذهب إليه منظري الفريق الأول من أن هذه الأدلة الشرعية التقليدية ليست أمورا تعبدية، قالوا أن هذا الأمر ليس صحيحا، ذلك أن أغلب أحكام الشرع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية تعبدية، كاستقبال الناس القبلة وهذا الأمر تعبدي وقصر الصلاة أثناء السفر هو أمر تعبدي كذلك…[2]

كما يرى أصحاب هذا الموقف أن العدول عن اللعان والاحتكام إلى الخبرة الطبية يعد ضربا من ضروب الظلم للزوجة وحرمان لها من حقوقها التي ضمنها لها الإسلام باللعان والمتمثلة فيما يلي:

  1. حقها في الدفاع عن نفسها وشرفها ودرأ العذاب عنها، والاكتفاء منها بمجرد أيمانها لرد أيمان الزوج مثلا بمثل وعددت بعدد، دون تدخل طرف ثالث قد يخطأ أو يتلاعب بالنتائج ودون تكاليف مالية باهضة كما قال تعالى : “والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين *”[3]

أن الآية ذكرت أن الزوج إذا لم يملك الشـهادة إلا نفسه فيلجأ للعان ، وإحداث البصمة بعد الآية تزّيد على كتاب الله ” ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ”

  1. سقوط دعوى الزوج ضدها وبطلان اتهامه لها، فلا يدري الناس من الكاذب منهما ؟ كما قال النبي (ص) للمتلاعنين: ” الله يعلم أن أحدكما كاذب ” ( رواه أبو داود والبخاري).
  2. احتفاظها بصفة العفاف والحصانة التي كانت تتمتع بها قبل قذفها ولعانها من قبل زوجها.
  3. فاللعان ستر لها ولأهلها وعدم فضحها، والبصمة الوراثية فضيحة لها وتشهير بها وبأهلها[4]

كما إن العدول عن اللعان والاحتكام إلى الخبرة الطبية يعتبر إضرارا بالولد وحرمانا له من حقوقه المضمونة له في اللعان التي تتلخص في:

  1. بقاء فرصة استلحاقه بعد اللعان إذا ندم الزوج وأكذب نفسه فانه يعد ويلحق به الولد، وهذا بخلاف الخبرة الطبية فإنها تفوت عليه هذه الفرصة إذا تبين أنه ليس من الزوج فانه لا يمكنه استلحاقه بعد ذلك مستقبلا
  2. حمايته من القذف، ففي حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى ألا ترمى الملاعنة ولا يرمى ولدها.[5]

كما يرى بعض الفقه أنه ما دامت وسائل الاثباث محددة انطلاقا من الحديث الشريف “الولد للفراش وللعاهر الحجر” فلا داعي لإضافة وسائل أخرى مستحدثة بدعوى التقدم العلمي أو التطور البيولوجي اعتبارا أن الرسول صلى الله عليه وسلم  “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي”(سورة النجم الآيتين 3 و4)[6]

وفي هذا المضمار قرر البعض إلى أنه في حالة إذا ثبت النسب بإحدى الطرق الثبوثية الشرعية المتفق عليها (الفراش، أو البينة، أو الإقرار) فان الشارع الحكيم قد حصر نفي النسب في طريق واحد فقط، وهو اللعان وهذا الأخير لا يجوز أن تساويه البصمة الوراثية في نفي النسب، فضلا أن تتقدم عليه،[7] وهذا ما أكد عليه مجلس المجمع  الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة خلال سنة 2000 حيث جاء ضمن قراراته الصادرة عنه: “أنه لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان”.[8] وأضافت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في إحدى توصياتها أنه “لا تعتبر البصمة الوراثية دليلا على فراش الزوجية إذ الزوجية تثبت بالطرق الشرعية”[9]

وحتى إذا كانت شروط دعوى اللعان من الصعب تحققها إلى أن وقع العمل بتركها سترا للنساء وحفاظا على الأنساب، فانه لا يمكن اللجوء إلى الخبرة الطبية كبديلة لها، لأنه بسقوط دعوى اللعان يلحق النسب ولا يمكن نفيه بالخبرة بعد ذلك[10]

وقد ذهب البعض أنه في حال إجراء اللعان بين الزوجين يمكن الأخذ بالبصمة الوراثية للتأكد في حال النفي، أو لمعرفة الحقيقة في حال الاثباث، ويعتصم بالسكوت عن الأمر إذا تم اللعان، فيكون مقدما عليها، وإذا لم يحدث لعان يعمل بدلالة البصمة في حالات الاختلاف بين الزوج والزوجة[11]
نفي النسب بين اللعان والخبرة الطبية في ضوء القانون الوضعي
_____________________________________
[1] كالأستاذ محمد التأويل، و خليفة الكعبي …
[2] محمد كفيل، المرجع السابق، ص 54
[3] سورة النور : 6 – 9 .
[4] يوسف فلالي محسن، المرجع السابق، 2007 ص 281
[5] يوسف فلالي محسن، المرجع السابق، ص 282
[6] إدريس الفاخوري,المرجع السابق، ص 194
[7] ناصر عبد الله الميمان، البصمة الوراثية وحكم استخدامها في مجال الطب الشرعي، أشغال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، المنعقد بجامعة الإمارات العربية المتحدة، المجلد 2، فندق هلتون العين 5ـ7 مايو، 2002 م ص 617 منشور على الموقع الالكتروني التالي: http://slconf.uaeu.ac.ae/prev_conf/2002/2.pdf
[8] جميلة أوحيدة، المرجع السابق، ص 28
[9] سعد الدين مسعد هلالي، المرجع السابق، ص 96
[10] إدريس الفاخوري,المرجع السابق، ص 201
[11] وهبة الزحيلي،  البصمة الوراثية ودورها في الاثباث، أشغال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، المنظم من طرف جامعة الإمارات العربية المتحدة، المجلد الثاني، فندق هلتون العين 5ـ7 مايو، 2002 م ، ص 530، منشور على الموقع الالكتروني التالي: http://slconf.uaeu.ac.ae/prev_conf/2002/2.pdf

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.