دعم دور القضاء الجبائي في المجال الضريبي

الفقرة الثانية: دعم دور القضاء الجبائي
إن طبيعة القانون الجبائي من حيث قيده على حرية الفرد في العمل والتملك ، يجعل له ذاتية خاصة في التفسير والتطبيق، وبالتالي فتطبيق القانون الخاص على الوقائع الضريبية قد يفقد القانون الضريبي ذاتيته وخصوصياته.

كما أن غموض التشريع الضريبي وصعوبة فهم المادة الضريبة، غالبا ما يدفع القضاي إلى اعتماد قواعد القانون المدني.

كل هذه الإكراهات ستؤثر لا محالة على خلق اجتهاد قضائي ضريبي يكرس لبعض القواعد في المجال الضريبي ، وهو ما يدفع إلى ضرورة خلق قضاء ضريبي متخصص كما يصبح لزاما تسريع الفصل في المنازعات الضريبية.

أولا: خلق قضاء ضريبي متخصص
الفصل فالمنازعات الضريبية ليس بالمهمة التي تتمثل في تطبيق حلول نمطية على مشكلات نمطية[1] تحدث في مسار الواقعة الضريبية، بل هو استيعاب ليس فحسب للقانون الضريبي ، ولكن للواقعة الضريبية نصا وروحا ، ناهيك عن ضرورة فهم الظروف التي اكتنفت المشكلة المؤدية لمثار النزاع وذلك ليكون قادرا على منع كل تجاوز للسلطة وردا لكل تعسف في الحق.

فإذا ما كان القاضي يواجه قانونا يكون ملزما بتطبيقه وإلا اتهم بإنكار العدالة ، فإن عليه اختيار من بين الطرق المتعددة الأفضل ولو للتخفيف من آثاره والتقرب أكثر إلى الحق، وفي هذا الاتجاه يلجأ أحيانا إلى الاجتهاد في تفسير النص الذي اعتراه غموض أو إبهام او تخللته ثغرات ، وذلك سعيا إلى إحقاق الحق والعدل الضريبي الممكن [2].

وهكذا يبقى على القاضي في المجال الضريبي مطالبا بتحقيق المعادلة القائمة بين ضرورة حماية المال العام من جهة، وحماية المال الخاص من جهة اخرى، وحينها يتكرس في اعتقاد الملزم الاطمئنان إليه- القاضي الضريبي – مما يشجعه على الوفاء بالتزامه الضريبي. كما سيساعد ذلك على إجبار الإدارة الضريبية على الانصياع لمقتضيات القانون الضريبي إذا ما تعسفت في استعمال سلطتها في المجال الضريبي، عندها أيضا يتورع الملزم عن التهرب الضريبي، لأنه لا يخاف خسارة ماله بسب إجحاف الإدارة.

لكن على الرغم من أن القضاء الإداري يحاول بناء اجتهاد في الميدان الجبائي فإن اجتهاده لازال يسير بخطى بطيئة. ذلك أن القضاء في المنازعات الضريبية كمنازعة شاملة لازالت مقصورة إما على إلغاء الضريبة محل النزاع أو إقرار أحقيتها دونما القدرة على تعديلها أو تغييرها [3].

كما أن السمة الأساسية للقضاء الاداري المغربي في ميدان المنازعات الضريبية ، هو غياب ما يعرف في التشريع المقارن كما هو الحال في التشريع الفرنسي[4] بالقاضي الضريبي، إذا أكدت التجربة الميدانية للمحاكم الإدارية أن نفس القاضي يبث في جميع القضايا وهو ما يفوت على القاضي الإداري فرصة التمرس والتخصص في قضايا بعينها خاصة إذا ما علمنا أن القانون الضريبي له خصوصياته التي تميزه.

فالقاضي يعاني من محدودية التكوين في المادة الضريبية ، ليس من حيث المساطر والإجراءات التي تتقاسم المفترض للإلمام بالنازلة الضريبية ويتجلى ذلك في تكوينه المدني الصرف داخل المعهد العالي للقضاء وتأثير ذلك على جسمه في جوهر النازلة.

فإلى جانب ضعف تكوين القضاة في المادة الضريبية والتغيرات التي تعرفها القوانين الضريبية سنويا تجعل القضاة غير قادرين على مسايرة التطورات والتعديلات التي تعرفها نجد أيضا أن القانون الضريبي يتميز بالدقة والتعقد والتقنية مما يزيد من صعوبة القاضي في ضبطه واستيعاب فلسفته القانونية.

وهذا ما يتجسد من خلال قرار [5] صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط سنة 1990 الذي جاء فيه:” حيث أن الفصل 62 من قانون الالتزامات والعقود يقضي بأن الالتزام المبني على سبب غير مشروع  يعتبر كأن لم يكن، وأن السبب يعتبر غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة او النظام العام …

وحيث أن الأموال التي يمكن ان تجبى من بيوت الدعارة لا يمكن اعتبارها ربحا خاضعا للضريبة لأن محل الالتزام فيها غير مشروع … “.

والحقيقة ان هذا الموقف لا يمكن التسليم به للاعتبارات التالية:
* لم يراع ذاتية القانون الضريبي الذي لا يهتم بشرعية الفعل بقدر ما يهتم بموضوع الربح فمتى تحقق الربح وجد وعاء الضريبة؛
*ظهير 1959 المتعلق بالضريبة على الأرباح المهنية موضوع المنازعة في هذا القرار لا يوجد به نص صراحة إخضاع الأموال التي يكون محل الالتزام فيها غير مشروع [6]؛
* استناد المحكمة إلى المادة 62 من ق ل ع وهو قانون يطبق على الالتزامات العادية بين أطراف متساوية في الحقوق والالتزامات في حين أن الالتزام الضريبي مصدره القانون العام.

وقد استمر هذا التوجه حتى بعد إنشاء المحاكم الإدارية، وهكذا فقد أصدرت المحكمة الإدارية بمكناس حكما ألغت فيه الضريبة العامة على الدخل المفروضة على نشاط جمعية رياضية استنادا إلى ظهير 1958 الذي يؤكد على غياب هدف الربح في نشاط الجمعية رغم أن الإدارة أثبتت بأن المستفيدين يؤدون واجبات مهمة من حيث مبلغها مقابل الاستفادة من التجهيزات الرياضية [7].

وقد أدت هذه الظاهرة إلى انتفاء عنصر الوحدة في الأحكام القضائية والذي يعتبر من المستلزمات الأساسية في العمل القضائي ذلك أن توحيد الاحكام والقرارات القضائية خاصة على مستوى الحالات التي تكون وقائعها متشابهة ، وحيتياتها تكاد تكون متطابقة مع أن بعض الأحكام الإدارية يشار فيها” حيث استقر قضاء هذه المحكمة في العديد من أحكامها على… ” إلا أن هذا الاستقرار سرعان ما لا يصمد حتى أصبحنا نجد كل محكمة إدارية تخلق توجها خاصا بها يختلف عن الأخرى بل حتى المحكمة الإدارية الواحدة لا تستقر على توجه واحد.

ونذكر على سبيل المثال تباين مواقف المحاكم الإدارية بأكادير حول عدم جواز تضريب لوحة المحامي بينما أجمعت المحاكم الإدارية بكل من فاس الرباط ومراكش على موقف إخضاع هذه اللوحة للرسم لتتدخل بعد هذا الجدل الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى[8] لتحسم عدم تجانس أحكام هذه المحاكم المثتبة على جدار مكتبه.

وإذا كان القضاء الإداري قضاء منشئا للقواعد القانونية في الميدان الإداري، فإن قضائنا في المادة الضريبية لازال لم يرق بعد إلى مستوى إحداث وخلق القواعد القانونية ، وهذا النقص في الإلمام بالمادة الضريبية  انعكس على الفصل في المنازعات الضريبية وجعل غالبية نتائجها تتمثل في عدم القبول وهذا ما يتضح من خلال بحث ميداني أجريناه بالمحكمة الإدارية بمكناس[9].

جدول رقم 7: الفصل في المنازعات انطلاقا من الإجراءات الشكلية

نوع الأحكامعدد الأحكام
الأحكام القاضية بعدم القبول28 حكما
الأحكام القاضية برفض الطلب20 حكما
الدعاوى المستجاب فيها للطلب14 حكما
الأحكام التي تم قبولها شكلا ورفضها موضوعا22 حكما

المصدر: المحكمة الإدارية بمكناس، وذلك من خلال استقراء مجموعة من القرارات التي تمكنا من الحصول عليها في إطار تدريب ميداني طيلة شهر مارس سنة 2009.

وتحليل هذه الإحصائيات يؤكد أن القضاء الإداري في القضايا الضريبية لازال ينحصر عمله في الوقوف على الإجراءات الشكلية دون سبر أغوار جوهر المنازعات، للفصل فيها عن قناعة ثابتة ويرجع ذلك لعدم تمكن القاضي الإداري بما يكفي من المادة الضريبية التي يطبعها التعقيد المحاسبي والتقني مما يدفع القاضي إلى اعتماد الخبرة

وفي هذا الإطار فإن محدودية تكوين القاضي في المادة الضريبية يجعله ملزما في العديد من الحالات بانتداب الخبير ليفك طلاسم الوثائق ذات الطبيعة المحاسبية.

وإذا كانت الخبرة كوسيلة إجرائية تساعد القاضي على تكوين قناعة في مسألة واقعية أو تقنية [10]، فإن تنظيم الخبرة لازال على قانون المسطرة المدنية [11] والتي لا تلائم خصوصيات المادة الضريبية.

ومن هنا فإن عجز القاضي عن ” فك طلاسم الجداول الضريبية ” والإلمام بالواقعة الضريبية في إطار ظروف  اقتصادية تتغير زمانيا ومكانيا لا يمكن تعويضه بإجراء الخبرة لنقصها[12] إضافة إلى أنه على مستوى تكوين القاضي فالمعهد القضائي [13] يركز فقط على المساطر والإجراءات دون التعمق في المسائل التقنية والفنية والمحاسبية للواقعة الضريبية

وهذه القضايا وغيرها لن تساهم في تكوين القضاء الكفء في المنازعات الجبائية مما يجعل خلق قضاء متخصص في المادة الضريبية أمرا ليس محمودا فقط ولكن إلزاميا.
المطلب الثاني: تفعيل دور القضاء في المجال الضريبي
المبحث الثاني: سبل الحد من ظاهرة التهرب الضريبي
الفصل الثاني: التهرب الضريبي والفعالية الاقتصادية
إشكالية التهرب في القانون الضريبي
_____________________________________________________________
[1] أحمد حليبة ، التهرب الضريبي وانعكاساته… ، م س ، ص  349.
[2] – مع أن مفهوم العدل عند القاضي يبقى منحصرا في استنطاق النصوص للوصول إلى روح التشريع كما جاء على لسان ادريس الضحاك في الكلمة  الافتتاحية التي القاها بمناسبة أشغال اليومين الدراسيين 28 – 29 مارس 2005 حول موضوع:” العمل القضائي والمنازعات الضريبية”
[3] ذلك أن فرض الضرائب لا يتم إلا بنص تشريعي كما أن الإعفاء منها لا يكون أيضا إلا بنص مماثل.
[4]- Pierre di Malta, Droit fiscal penal, op. cit, p: 249.
[5] – قرار بتاريخ 22 مارس 1990 ملف إداري عدد 77- 88 وللإشارة فهذا القرار صادر قبل إنشاء المحاكم الإدارية
[6] وهذا ما نجده في القانون الضريبي إذ أن المادة 252 من القانون المالي لسنة 2009 التي تجعل  رخص وأذون محلات استهلاك المشروبات الكحولية أو الممزوجة الكحول ونظائرها  خاضعة للضريبة.
[7] – نجيب البقالي ، منازعات الوعاء الضريبي امام القضاء الإداري، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة ، جامعة الحسن الثاني كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية المحمدية الدار البيضاء ، 2007- 2008 ص : 70.
[8] – أحمد حليبة، التهرب الضريبي، وانعكاساته… ، م س ، ص  351        المحكمة الإدارية بأكادير: حكم رقم 40/95 الصادر بتاريخ 8/ 6/ 1995
المحكمة الإدارية بفاس: حكم عدد 43/95 بتاريخ 5/ 4/ 1995
المحكمة الإدارية بالرباط: حكم عدد 87 بتاريخ 23/3/1995
المحكمة الإدارية بمراكش ، حكم رقم 38 بتاريخ 4/7/1995
قرار المجلس الأعلى رقم 512 بتاريخ 27/ 6/ 1996
2– للاشارة هذه الاحكام تعود لسنة 2006 ، ليست كل الاحكام  لكن حسب عدد الاحكام التي تمكنا نت الحصول عليها خلال هذه فترة التدريب الميداني الذي قمنا به سنة 2009.
[10] – رغم أن رأي الخبير لا يلزم القاضي إلا استئناسا إلا أن هذه الخبرة تكتسي أهميتها القصوى في المنازعات الجبائية ، لغلبة الطابع التقني والواقعي فيها وهو ما يكرس تعقيد شديدا لدى القاضي.
[11] – الفصل 59 إلى الفصل 66 من قانون المسطرة المدنية
[12] – وذلك لأن جدول خبراء المحاسبة المعتمد من لدن محاكم المملكة لا يزال يضم محاسبين لا يتوفرون على مؤهلاتؤ علمية كعدم حصولهم على دبلوم خبير محاسبة في حالة استجابة المحكمة لطلب الخبرة فغالبا ما تحدد مدة قصرة لإجرائها تحدد في 3 أو 4 أسابيع وهو ما لن يسعف الخبير للإحاطة بجميع جوانب النازلة كما أن إجراء الخبرة يأتي متأخرا عن الفترة الزمنية التي نشأت فيها الواقعة الضريبية.
[13] – نجيب البقالي ، منازعات الوعاء الضريبي أمام القضاء الإداري ، م س ، ص : 68.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.