قدرة مدونة التعمير على تجاوز أزمة التدبير العمراني والتناغم مع البنية السيوسيو-إدارية

مدى تناغم تطلعات التخطيط العمراني من خلال المشروع مع البنية السيوسيو- إدارية – الفقرة الثانية: 
رغم الإيجابيات والمحاسن التي جاء بها مشروع مدونة التعمير على مستوى محاولة إعطاء إجابة عن الأزمة التي يعيشها المجال في شقه المرتبط بالتخطيط، إلا أن ذلك لا يمنع من الوقوف على مجموعة من العناصر التي يتعين تداركها وتعميق النقاش بشأنها حتى لا تكون عقبة أمام تنزيل المقتضيات المقترحة في هذا الصدد.

فعلى مستوى المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية والذي لم يختلف جوهريا من حيث المعنى عن المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية، ورغم توجهه نحو التعمير العملياتي، إلا أن محافظته على مقتضيات المادة 9 من قانون 12.90 في شأن إلزام كافة المتدخلين بالتقيد التام بأحكام المخطط [1]، يجعله محل انتقاد؛ وذلك لصعوبة تصور التقيد التام بمقتضيات مخطط ينظم المجال لعشرين سنة، حيث كان المشروع صارما خلافا للمشرع الفرنسي مثلا الذي أخذ بنوع من المرونة بنصه على درجة أدنى من التقيد[2] سماها “بالتوافق” . بل أن القانون الفرنسي الجديد المتمثل في قانون التضامن والتجديد الحضري بتاريخ 13 دجنبر 2000 الذي سمى المخطط بمخطط التناسق الترابي قد توجه في مزيد من المرونة قصد إيجاد التجانس في السياسة الحضرية .

في مقابل ذلك، جاءت المادة الحادية عشرة من المشروع مرنة في تعاملها مع الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية في مسألة تكوين الاحتياطات العقارية[3]. وهنا نقترح تغيير كلمة “يمكن” ب “يجب” من أجل إجبار الجماعات والمؤسسات العمومية على التدخل في السوق العقارية لمحاولة تحقيق نوع من التوازن المفقود. كما أن الفقرة الأخيرة من نفس المادة قد بالغت في فرضها نسبة معينة للسكن الاجتماعي، مادام أن الواقع المغربي المعيش لا يطرح إشكالا في هذا الصدد، ومادامت أغلب طلبات المستثمرين والمعنيين بالسكن تحبذ السكن الاجتماعي [4]. وإذا كان من إيجابيات المشروع تقوية عدم التركيز عن طريق إعطاء صلاحية المصادقة على المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية للوالي، فإن التحفظ يقوم على صيغة “بعد موافقة تجمع الجماعات المعنية والرأي الموافق للإدارة”[5]، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في الصيغة المقترحة في اتجاه تلطيفها تفاديا لعرقلة مسلسل التخطيط وكي لا نعيد تجربة ظهير 1952 في هذا الشأن الذي ترتبت على مسطرته التي تستوجب موافقة الجماعات المعنية إبقاء مجموعة من وثائق التعمير سنين طويلة دون مصادقة. في مقابل ذلك، فقد تعامل المشروع بنوع من الفتور مع الدور الذي يمكن أن تلعبه المجالس الجهوية والإقليمية بشأن المخطط، حيث لم يبرز القيمة القانونية للملاحظات التي يمكنها أن تبديها، بل يلزمها بوضع اقتراحاتها باستعمال صيغة “إلإمكان” ، ومعتبرا فوات أجل 45 يوما بأن مشروع المخطط لا يطرح بالنسبة إليها أية ملاحظة [6]. كما أن منح اختصاص تقييم وتتبع إنجاز المخطط المذكور لوكالات التعمير، يستوجب مؤهلات بشرية ومادية هامة لهاته المؤسسات طالما أن واقعها الحالي لا ينم عن قدرتها على استيعاب هذا الاختصاص المقترح [7].

وبالرجوع إلى الوثائق التي يشملها المخطط ، نلاحظ أنها قد تعززت بوثائق خرائطية ومكتوبة. إلا أنها غيبت الجانب المرتبط بالدراسات العقارية. فلا يعقل لمخطط من هذا الحجم وفي ظل الإكراهات التي يطرحها العقار أمام التنمية المجالية ألا يستحضر هذا البعد في الدراسة.

أما على مستوى المخطط التوجيهي للتهيئة والذي يعد من مستجدات المشروع، فإن التسمية التي أعطيت له لا تتوافق والأهداف المتوخاة منها. ومن هنا يظل مفهوم التهيئة مفهوما واسعا، فتصميم التهيئة ما هو في آخر المطاف إلا مخططا لتوجيه التهيئة، وينسحب الشيء نفسه على باقي وثائق التعمير. وتجدر الإشارة إلى أن الصيغة الأولى لمشروع مدونة التعمير التي لم تعرض على الأمانة العامة للحكومة كانت تقترح إدراج المخطط المذكور ضمن المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية مكتفية بالإشارة إلى أن المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية يطلق كذلك على المناطق ذات الأهمية الخاصة كما هو الشأن مثلا بالنسبة للأودية والواحات. إن الأخذ بهذه الصيغة يظل أفضل وأيسر وأرفق على المال العام من تخصيص وثيقة قائمة الذات. فكان على واضعي المشروع أن يدرجوا المخطط المذكور ضمن المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية، ويشيروا إلى إمكانية إعداد وثيقة مستقلة بذاتها في حالة عدم وجود المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية.

إذا كان هذا بخصوص المخططات التوجيهية، فإن المقترحات التي جاء بها المشروع على مستوى التصاميم النافذة لا تخلو من عيوب. فعلى مستوى تصميم التهيئة يشير المشروع إلى وجوب تقديم مشروع تصميم التهيئة ثلاث مرات على الأقل للمجلس الجماعي المعني ثم إخضاعه قبل المصادقة لرأي المجلس داخل أجل 45 يوما. فإذا كان مظهريا يبدو في هذا الطرح إضفاء لطابع الدمقرطة على تصميم التهيئة، فإنه على مستوى الواقع –وبناء على ما أفرزته الممارسة في هذا الشأن- سيكون في ذلك إطالة لمسلسل التخطيط خاصة عندما يتعلق الأمر بتصاميم تهيئة تهم أكثر من تراب جماعة محلية. كما أن الغموض يلف مسألة الاختلاف بشأن تحكيم الوالي الذي اقترحه المشروع في حالة تعارض بين المجالس الجماعية المعنية ووكالة التعمير بشأن الملاحظات المبداة، حيث يتحدث المشروع عن تدخل السلطة الإدارية المختصة لحل الإشكال دون تحديد المقصود بها فهل المقصود بها وزير الداخلية باعتباره الوصي على المجالس الجماعية والرئيس التسلسلي للوالي ؟ أم الوزارة المكلفة بالتعمير باعتبارها الوصي على وكالات التعمير والمشرفة على القطاع؟ أم الوزير الأول باعتباره المنسق بين الوزارات؟

إن شهادة المطابقة –التي جاء بها المشروع في مادتيه 36 و37- بين تصميم التهيئة والمخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية يصعب احترامها طالما أن هذا الأخير يتضمن توجهات عامة قد لا تكون متطابقة بشكل تام مع تصميم التهيئة، كما أن إعطاء صلاحية تسليمها لتجمع الجماعات المعنية قد يفرز صعوبات وعراقيل من شأنها أن تعيق هدف التخطيط وإن كان إعطاء صلاحية الحلول للعامل والتحكيم للسلطة المكلفة بالتعمير قد يخفف من العراقيل المحتملة.

لعل استثناء المشروع في مادته السابعة والثلاثين الارتفاقات المتعلقة بالسكك الحديدية وحدود الطرق من انتهاء آثار المنفعة العامة يعد إيجابيا نظرا لما أفرزته الممارسة من إكراهات في هذا الشأن إلا أن المشروع لم يكن موفقا في الإجراءات المواكبة لهذا الاختيار، حيث لم ينص على أي تعويض عند فوات مدة العشر سنوات عن إعلان المنفعة العامة .ونحن نقترح في هذا الشأن تبني ما جاءت به الفقرة الثالثة من المادة 25 من مشروع قانون تأهيل العمران التي اقترحت تأدية الجهات المعنية ابتداء من انقضاء أجل عشر سنوات قيمة كراء سنوي يتم احتسابها كما تحتسب الرسوم المتعلقة بالأراضي غير المبنية داخل المدارات الحضرية؛ وذلك إلى غاية إصدار قرار تعيين الأراضي المراد نزع ملكيتها. فمن غير العدل أن يستفيد مالك لأرض خصصت لمرفق عمومي لم يتم إنجازه خلال عشر سنوات المخصصة لإعلان المنفعة العامة من استعادة أرضه واستعمال التنطيق الذي توجد فيه. في المقابل يحرم مالك لأرض خصصت لطريق من استعادة أرضه ومن التنطيق بل ويحرم كذلك حتى من كراء أرضه المرهونة. وفي نفس سياق العدالة العقارية نسجل عدم إعفاء الملاكين المثقلة عقاراتهم بارتفاق المنفعة العامة من أداء الضرائب التي تخضع لها هذه العقارات، حيث من غير المعقول كذلك فرض ضرائب على أرض يمكن نزع ملكيتها متى شاءت الدولة أو الجهة المعنية علما أن الصيغة الأولى لمشروع مدونة التعمير قد تضمنت الإعفاء بعد ما سبق لواضعي مشروع قانون تأهيل العمران أن اقترحوه كذلك[8].

ورغم الإشكالات التي طرحها الطابع الاختياري لقرار القيام بدراسة تصميم التهيئة على أرض الواقع، فقد حافظ عليه المشروع؛ لذلك نقترح أن يكون هذا القرار إلزاميا طالما أنه في الحالة التي لا يتم فيها اتخاذ القرار بالقيام بالدراسة، فإن الإدارة تفتقد لأي سند قانوني لمنع طلبات المواطنين الرامية إلى البناء والتجزيء.

أما بخصوص قرارات تخطيط حدود الطرق العامة، وقرارات تخطيط الطرق العامة بمثابة قرارات التخلي، فإن المشروع حافظ عموما على المقتضيات السارية المفعول بإيجابياتها وسلبياتها وإن كنا نسجل غموض المادة 57 في هذا الشأن التي لا توضح قيمة الرأي الذي يجب أن تبديه وكالات التعمير. ونفس الملاحظة تسري على الفقرة الثالثة من المادة 58 التي لم تحدد قيمة رأي وكالة التعمير في شأن الأراضي موضوع قرار التخطيط المراد استغلالها مؤقتا.

وإذا كانت من مستجدات المشروع تكليف المجلس الجماعي بتشاور مع وكالات التعمير وضع الأنصاب التي تحدد الطريق منذ تاريخ نشر قرار التصفيف، فإننا نقترح إجراء عملية التحديد بموازاة مسطرة الاقتناء وليس من تاريخ النشر احتراما لملكية الأفراد من جهة ولعدم تحديد طرق قد لا يتم اقتناؤها أساسا من جهة أخرى، خاصة وأن الممارسة أبانت عن ضعف تنفيذ مقتضيات وثائق التعمير. واحتراما لملكية الأفراد كذلك فإنه يجب إعفاء ملاك الأراضي التي تم تخصيصها لقرارات التصفيف من أداء الضرائب التي تخضع لها هذه العقارات مدة إثقالها بارتفاق المنفعة العامة.

وبخصوص تصميم المحافظة وإبراز القيمة المستجد في المشروع الذي يهم القطاعات ذات الأهمية التاريخية والإيكولوجية، فإننا نلاحظ غياب الإحالة على النصوص التشريعية المعمول بها خصوصا ظهير 25 دجنبر 1980 المتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعاديات.

هذا، ويلاحظ أن واضعي المشروع قد تراجعوا عن إعفاء الأراضي المثقلة بارتفاق المنفعة العامة من الضرائب والرسوم طيلة إخضاعها لها، حيث أن الصيغة الأخيرة لمشروع المدونة المعروضة على أنظار الأمانة العامة للحكومة لا تشتمل على ذلك.

والخلاصة أن سياسة التدخل العمومي في ميدان التخطيط المقترحة مازالت تشوبها نقائص تهم بالأساس مسألة توزيع الاختصاص بين اللامركزية الترابية واللامركزية المرفقة التي يجب أن تنبني على إدراك الواقع السوسيو سياسي المغربي دون التأثر المبالغ فيه بالتجارب الأجنبية من جهة، واستحضار واقع التدبير الإداري المعيش من جهة أخرى.

الفقرة الثالثة: مدى قدرة مستجدات المشروع على تجاوز أزمة التدبير العمراني
حاول المشروع تحديد أدوار الفرقاء في ميدان التدبير العمراني وتوسيع مجالاته ليستوعب مختلف الإشكالات المطروحة. إلا أن تفحص مواده يكشف عن عدة ثغرات لابد من تجاوزها.

فإذا كان توسيع مفهوم المنفعة والمصلحة العامة الذي شمل قطاعات التهيئة التشاورية والمشاريع العملياتية والمدن الجديدة ومناطق الاحتياط العقاري ومحيطات الضم الحضري سيسعف لا محالة الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية في تملك الأراضي والتحكم في السوق العقارية، فإنه في المقابل ينال من حق ملكية الأفراد، مما قد يجعله سببا مباشرا في نشوب المنازعات في ظل غياب الضمانات الكافية لتحصين الممارسة الإدارية من الشطط والغلو في استعمال السلطة. إن هذا الأمر يقتضي توفير مناخ سوسيو-اقتصادي وإداري ملائم تواكبه مبادرات حقيقية للتنمية البشرية وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة للمتدخلين العموميين في تملك الأراضي.

كما أن قراءة المشروع في باب توزيع الاختصاص بين اللامركزية الترابية واللامركزية المرفقية تبين التوجه نحو تقوية صلاحيات العامل والجماعات الحضرية والقروية في ميدان التدبير العمراني على حساب دور وكالات التعمير. فإذا كانت الفلسفة المتحكمة في ذلك تروم تعزيز دور المنتخب الجماعي في تسيير الشأن المحلي، فإن الواقع السوسيو سياسي ببلادنا يستلزم الحذر واستحضار النتائج المتوقعة، إذ يبدو منطقيا البحث عن توازن في التدخل العمومي غايته المصلحة العامة في انتظار توفير شروط ذاتية وموضوعية تكون مدخلا لتحقيق لامركزية حقيقية.[9]

ومن جانب آخر، فلا تفوتنا الفرصة للوقوف على موضوع مساهمة المجزئين العقاريين في توفير المرافق والتجهيزات العمومية التي غض واضعو المشروع الطرف عنها رغم أهميتها البالغة وتداعياتها في خضم الممارسة الإدارية؛ وذلك في غياب ضبط قانوني لهذه المسألة مقابل سلطة تقديرية واسعة للإدارة. لقد اكتفى المشروع بالإحالة على النص التنظيمي للجواب على هذا الأمر رغم أن المكان الأنسب له هو المدونة ذاتها طالما أن عدم حسم سؤال مساهمة المجزئ العقاري في تخصيص نسبة معينة من الوعاء العقاري للمرافق العمومية والمساحات الخضراء والإرتفاقات التي يتطلبها الأمن العام والسكينة العامة والصحة العامة سيترك سلطة تقديرية واسعة للإدارة قد لا تحسن استعمالها دائما بل وقد تكون على حساب المنفعة العامة أحيانا لارتباط ذلك بالثروة.

ومن النقط التي كثر الحديث عنها دون أن تحظى بالمعالجة الكافية تلك المتعلقة بمدى صلاحية الإدارة النظر في الوضعية العقارية والقانونية للأراضي موضوع طلبات التجزئ والتقسيم والبناء. فلقد اشترط مشروع المدونة تحفيظ العقارات المراد تجزئتها داخل الجماعات الحضرية والمراكز المحددة؛ فيما اكتفى بالإدلاء بمطلب التحفيظ خارج الدوائر المذكورة. أما بخصوص تقسيم العقارات والأبنية فلم يرد ما يفيد جديدا في انتظار استكمال المدونة بنص تنظيمي.

إن خيارات المشروع في هذا الموضوع يجب أن تكون واضحة لتبديد الغموض الذي يخيم على مسألة اشتراط التحفيظ العقاري من عدمه في الأرض المراد تقسيمها أو بناؤها وكذا اختصاص الإدارة في التحقق من ارتباط صاحب الشأن بملكية العقار، وإن كان إعفاء الإدارة من هذا الإجراء يبدو أسلم وأرحم بالتدبير العمراني[10]، رغم التداعيات السلبية التي قد تترتب عن هذا الطرح والمتمثلة أساسا في ارتفاع حجم المنازعات العقارية لدى القضاء الذي يلح عليه المشروع في محطات عدة للمزيد من تقييد الأحكام الصادرة عن المحاكم بمدونة التعمير استنادا على الاختلالات التي أفرزها الواقع في هذا الشأن، ورغبة في تحقيق تناغم بين النصوص التشريعية العامة والخاصة.

ونضيف أيضا في إطار النقط التي يكتنفها اللبس ما يتعلق بصعوبة التمييز بين التجزئة العقارية وتقسيم العقارات، حيث يبقى التساؤل مطروحا حول المغزى الكامن وراء ربط تعريف التجزئة العقارية بقسمة العقار إلى ثلاثة بقع أو أكثر وهي صيغة قد تفضي إلى الالتفاف على غاية المرونة التي يتوخاها واضع المشروع، حيث نقترح في هذا الشأن الحفاظ على الصيغة الحالية للقانون 90-25 في تعريف التجزئة العقارية مع إضافة حد أدنى لمساحة البقع المستخرجة[11] نظرا لما أفرزه عدم وجود حد أدنى للمساحة من ممارسات إدارية على هامش الشرعية[12].

كما أن استثناء القسمة الناتجة عن الإرث من مفهوم التقسيم العقاري يتناقض مع أهداف التخطيط والتدبير العمرانيين ويفتقد لمسوغ معقول ينهض سببا لقبوله، خاصة حين يتعارض تفتيت العقار مع القانون المنظم للمجال. فكيف يمكن تصور إجراء قسمة عقار ناتج عن الإرث تقل مساحته مثلا عن الحد الأدنى المبين في ضابطة التهيئة؟

ويقوم تحفظنا كذلك على استثناء شرط المساحة- المنصوص عليه في وثيقة التعمير أو 2500 متر مربع في غياب ذلك- بالنسبة إلى تقسيم عقار إلى بقعتين أو أكثر لغرض تشييد بناء لاستعمال شخصي لمالك أو عدة ملاك. إن من شأن ذلك أن ينعكس سلبا على المجال العمراني بالوسط القروي عبر انتشار السكن المتفرق الذي يهدد الصبغة الفلاحية أو السياحية للمنطقة المعنية أمام الطلب المتزايد على السكن الثانوي بضواحي المدن والمراكز الكبرى وأمام حذف المشروع لشرط الهكتار كحد أدنى للبناء بالعالم القروي. ونقترح في هذا الشأن وضع حد أدنى للمساحة قصد إحداث تجزئة عقارية داخل الدائرة المتاخمة لمدار التهيئة يتم التنصيص عليها في ضابطة التهيئة التي يجب أن تتضمن كذلك تحديد عمق الدائرة المحيطة تبعا للأهمية الاقتصادية والسوسيو مجالية للمنطقة المغطاة وذلك احتراما للخصوصيات المحلية وتفاديا لبناء عشوائي مرخص.

أما على مستوى الأبنية، فقد تم اقتراح تعميم رخصة البناء، حيث يحبد هذا الأمر باعتباره شكلا من أشكال تعميم الرقابة الإدارية. لكن ما يعاب على المشروع هو تعميم إجبارية اللجوء إلى المهندسين في جميع المناطق مادام أن هذا الاقتراح قد يكون سببا في تفشي ظاهرة السكن غير اللائق خاصة في المناطق النائية، ولذلك نقترح في هذا الصدد ترك أمر اللجوء إلى المهندس اختياريا خارج البلديات والمراكز المحددة والمناطق المحيطة بهما والجماعات القروية المغطاة بوثيقة للتعمير مع إجبار الجماعات القروية بتنسيق مع وكالات التعمير بتقديم المساعدة التقنية خارج المناطق المذكورة مجانا لفائدة ساكنة العالم القروي[13]. ومن المقترحات التي تستوجب إعادة النظر بشأنها بخصوص البناء، ما جاءت به المادة 415 من المشروع في شأن إلزامية وضع الوثائق التقنية الحاملة لعبارة “مطابقة للضابطة المضادة للزلازل” المرتبطة بسلامة واستقرار المبنى بالجماعة المعنية قبل افتتاح الورش، حيث نقترح أن تكون الوثائق المذكورة شرطا للحصول على رخصة البناء ضمانا للمراقبة وتفاديا للسلوكات المشينة التي افرزها الواقع.

أما بخصوص تغير وظيفة المباني التي حافظ علي صيغتها المشروع، فقد عرف تطبيقها تباينا فيما يخص التعامل مع روح المادة، ذلك أنه عوض أن تسترشد الإدارة بجميع الآليات الممكنة وجميع الإمكانات المتاحة لمعرفة مدى احتمال وجود إزعاج وتقييمه أصبحت تلجأ فقط إلى طلب موافقة الجيران دون غيرها التي أبانت عن تجاوزات ومساومات[14]. ولذلك نقترح تعديل المادة 425 من المشروع عبر التأكد من عدم وجود الإزعاج بقرار من السلطة دون اللجوء الممنهج إلى موافقة الجيران الذي يبقى لهم الحق في الطعن في قرار السلطة أمام القضاء الإداري، كما نقترح بخصوص نفس المادة توضيح الطبيعة القانونية لرأي وكالة التعمير رفعا لأي لبس.

إن ميدان المراقبة الذي اقترح بشأنه المشروع عدة تعديلات رمت نحو إعادة النظر في التدخل العمومي في اتجاه تركيز المراقبة في يد العامل لم تراع المسؤولية الشخصية للعقوبة، خلافا لمشروع قانون تأهيل العمران الذي اعتبر مسؤولية السلطة الإدارية المختصة في تسليم الرخص مسؤولية شخصية عندما لم تراع رأيا ملزما معللا تعليلا مشروعا[15]، أوسلمت مثلا رخصة إحداث تجزئة عقارية أو مجموعة سكنية أو بناء أرض مغطاة بوثائق التعمير تشكل خطوة نظرا لهشاشتها أو لتعرضها للفياضانات أو لخطر آخر مؤكد. وتكون هذه المسؤولية أيضا شخصية بالنسبة إلى مدير الوكالة الحضرية إذا خالف وثيقة من وثائق التعمير أو نظاما من أنظمة التعمير وكذا بالنسبة للعون المكلف بمعاينة المخالفات إذا تقاعس عن القيام بواجبه[16]. كما يعاب على المشروع عدم التوازن في محاسبة المتدخلين العموميين، ففي الوقت الذي يجرم قرارات رؤساء المجالس الجماعية يبقي رجال السلطة خارج أية مساءلة رغم تخويلهم صلاحيات جديدة.

إن مبعث هذه الملاحظات منبعه التخوف من أن تصطدم طموحات المشروع مع إكراهات الواقع المعيش المتميز بالتناقضات السوسيو مجالية، فيدشن مسار المدونة المرتقبة بالنقد والتنافر مع المتغيى من تدبير عمراني محكم. كما يمكن التخوف كذلك من ولادة عدة مقتضيات ميتة لا تجد سبيلا إلى التطبيق والأجرأة إما لافتقادها لمنطق معقول وإما لحاجتها لإمكانات تتجاوز مؤهلات البلاد البشرية والمادية. فكيف يمكن تجاوز هذه العقبات وتبديد هذه التخوفات؟ وما هي الحلول التي يمكنها أن تؤدي إلى إيجاد تدخل عمومي فاعل وفعال قادر عن ابتداع تقنيات جديدة تخفف من الهوة الموجودة بين القانون والممارسة من جهة، وتلطف من حدة الخروقات من جهة أخرى؟ ذلك ما سيقف عليه المطلب الثاني من هذا المبحث.
المبحث الثاني: آفاق التدخل العمومي في ميدان التعمير
الفصل الثاني: آفاق التدخل العمومي في ميدان التعمير على ضوء التوجهات المطروحة
القسم الثاني: حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

__________________________________________
[1] تقترح المادة 19 من مشروع مدونة التعمير في فقرتها الأولى ما يلي:
L’Etat, les collectivités locales, les établissements publics et les personnes morales de droit privé dont le capital est souscrit entièrement ou partiellement pour les personnes publiques précitées sont tenus de respecter et de mettre en œuvre les dispositions d’urbanisme du schéma directeur d’agglomération notamment en matière de programmation et de réalisation des équipements de superstructure et d’infrastructure et des aménagements spatiaux
[2] Jacquot (H) LebReton (J.P) : la réfonte de la planification urbaine A.J.D.A., 20 janvier 2001, p :31.
[3] لقد جاء في البند 11 من المادة 11 من المشروع التي تحدد أهداف المخطط التوجيهي للتجمعات العمرانية ما يلي:
Les territoires dans lesquels l’Etat, les collectivités locales ou les établissements publics peuvent constituer des réserves foncières.
[4] يبدو أن واضعي المشروع قد تأثروا بما آلت إليه الأوضاع في بعض الأحياء الفرنسية بهذا الخصوص رغم أن السياق المغربي يختلف عن السياق الفرنسي.
[5] جاءت الفقرة الأولى من المادة 16 من المشروع كما يلي:
Le schéma directeur d’agglomération est homologué par arrêté du wali de région concerné pris après approbation du groupement des communes concernées et accord de l’administration compétente.
[6] الفقرة الأولى من المادة 17 من مشروع مدونة التعمير.
[7] المادة 15 من مشروع مدونة التعمير.
[8] المادة 25 من مشروع قانون تأهيل العمران.
[9] أحمد مالكي وعبد الواحد الإدريسي: تداعيات المنازعات العقارية على التدبير العمراني بالمغرب. مرجع سابق، ص: 13 وما بعدها.
[10] يستشف من خلال عبارة” مع التحفظ على حقوق الغير” التي ترفق بالرخص ميل واضع المشروع إلى ترك النظر في الجانب العقاري عند الاقتضاء للمحاكم.
[11] إن تطبيق القانون الحالي المنظم للتجزئة العقارية لا يسعف في تقسيم أي عقار معد لإقامة بناء عليه بمقتضى وثائق التعمير مهما كانت مساحته، حيث يفرض على المالك أن يسلك مسلك التجزئة، الأمر الذي يعد غير منطقي.
[12] نقترح أن توكل مسألة الحد الأدنى للمساحة إلى ضابطة التهيئة أو إلى قرار عاملي في الموضوع للأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الاقتصادية والمجالية والعقارية لكل منطقة على حدة.
[13] نسجل بإيجابية مبادرة الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالإسكان والتعمير المتمثلة في إبرام مجموعة من الاتفاقيات مع الوكالات الحضرية لتمويل المساعدة التقنية والمعمارية لفائدة ساكنة العالم القروي المعوزة الموجودة خارج المناطق المغطاة بوثائق التعمير والتي تستوجب الاستعانة بالمهندس، حيث أبرمت الوكالات الحضرية اتفاقيات مع بعض المهندسين المعماريين من أجل إعداد التصاميم المعمارية وتحمل أعباء إعداد تصاميم الخرسنة ومتابعة الأشغال مقابل أداء الوكالات الحضرية أتعاب هذه الخدمات من الغلاف المالي المخصص لهذه العملية من طرف الوزارة الوصية، حيث نقترح تقنين هذه المبادرة في إطار مدونة التعمير.
[14] دورية الوزير المكلف بإعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة عدد 2020 بتاريخ 11 دجنبر 2001 بخصوص طلب موافقة الجيران في شأن تغيير وظيفة المباني.
[15] لعل من شأن الأخذ بهذا أن الإجراء أن يرد الاعتبار لوكالات التعمير طالما أن جل الجماعات لا تحترم رأيها المطابق، بل أن بعض رؤساء الجماعات يعمدون إلى تغيير التصاميم المؤشر عليها من طرف اللجنة المختصة واستبدالها بتصاميم مؤشر عليها من طرف مصالح الجماعة فقط.
[16] المادة 166 من مشروع قانون تأهيل العمران.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.