نهج مفهوم جديد لمراقبة وفلسفة عقاب التهرب الضريبي

ثانيا: نهج مفهوم جديد للمراقبة وفلسفة العقاب
رغم تجريم التهرب، لم يحصل تقدم فعلي في محاصرة سرطانه، وحتى وإن سلمنا بفاعلية العقاب، فإنه لا يعتبر أولى وسائل الإصلاح والتهذيب الفردي والجماعي، وليس عبره يتأتى إحداث التغيير الجذري في حياة الناس والمجتمع، لكن يبقى آخر الوسائل إذا استعصت الحلول، على اعتبار أن الإيمان بقضية لا يتكرس بالقهر والإكراه، وإنما بالتأطير والتوعية.

وهكذا نرى القرآن الكريم يبين أن العقاب يتم اللجوء إليه بعد تبيان الحق وسلك مسالك الإقناع بالبراهين العقلية والحسية لقطع الأعذار وفي هذا يقول تعالى:” ولو أن أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، من قبل أن نذل ونخزى “[1].

وهكذا فلتفعيل نظام المراقبة الجبائية لابد من الانطلاق من منظورين اثنين:

1-توجيه المراقبة
إن قرار الملزم فيما إذا كان عليه أن يلتزم بكل صدق بأداء الواجب الضريبي، أو أن يتهرب، يبقى رهينا بمدى حضور الإدارة الضريبية كمراقبة ومتحرية وكذلك  إلى نوعين الرقابة[2] التي تجريها ومن هنا يجب تقوية المراقبة الجبائية على الملزمين بالضريبة من أجل تأكيد المساواة والعدالة أمام جميع المواطنين تجاه الضريبة، هذه المراقبة التي يمكن أن تضبط المتهربين من الضريبة.

وعليه فالمراقبة تنطوي على فحص جدي للتقييدات المحاسبية، مستعملة بذلك كل وسائل المراقبة[3] من فحص للمحاسبة وحق الاطلاع على الوثائق وتبادل المعلومات، ويجب تفعيل هذه المساطر بكل دقة وجدية ونزاهة حتى يتم ضبط مرتكبي التهرب الضريبي الذين يبقون في منأى عن هذه المراقبة نتيجة استعمالهم لوسائل احتيالية[4].

وإذا كانت الإدارة الضريبية غير قادرة على تعميم المراقبة الدقيقة على كل من يوجبها القانون الضريبي عليهم، فإن الإدارة يجب أن تبدع وسائل ذكية ودائمة تتعقب عبرها نشاط الملزمين، وهكذا يمكن للإدارة في هذا الصدد أن تفتح مجال المراقبة لتستوعب الجميع وذلك من خلال إرساء دعائم المراقبة التشاركية[5]، وتنطلق المشاركة في المراقبة أولا بإشاعة تقاليد الرقابة والمساءلة كثقافة يجب أن يقبلها المجتمع ويستوعبها، لتتجدر بداخله أهمية المساهمة الحقيقية في المراقبة، باعتبارها مسؤولية الجميع مادامت حماية للمال العام الذي يبقى المفهوم والعنصر الأساسي للمالية العامة وهو مفهوم ويصعب حصره[6].

إذ لا يزال التدبير الضريبي يقتصر على الدولة عامة، ووزارة المالية خاصة وهذا ما يفسر غياب المجتمع المدني في هذا المجال، حيث لا يوجد أي جمعية مثلا تتبنى مكافحة التهرب الضريبي – كما أصبحت تنشأ جمعيات لمحاربة الرشوة-، فغياب المجتمع المدني في المجال الضريبي انعكس سلبا على مردودية الخزينة.

ولاشك أن قيام الإدارة بهذه الضرائب على أكمل وجه سيمكن الأفراد من الانخراط في المراقبة الضريبية خدمة للخزينة العامة التي ترجع عائداتها على الجميع، ومن هنا يجب تدعيم قنوات التواصل والإعلام مع الملزمين من أجل بعث الملزم على فهم وظيفة وأهمية الالتزام الضريبي الواقع عليه تحمله، فالإدارة الضريبية لا تتوفر على أية بنية استقبال أو للإعلام ما يجعلها تخل بجزء كبير من وظيفتها الإدماجية وتختلف عن النموذج الفرنسي الذي اختارت التماثل معه فيما يخص بنية الجباية وطرق تحديدها وتحصيلها، إلا أنها حادت عن فلسفته في التعامل مع زبنائها[7].

وهذا التوجه ذهبت فيه فرنسا بعيدا، وذلك حينما أنشأت سنة 1977 بمقتضى مرسوم صادر في 6 ماي من نفس السنة المديرية العامة الخاصة بالعلاقة مع العموم[8] والذي حدد هدفها في الإعلام وتكوين الموظفين فيما يتعلق بالعلاقات مع العموم وكذلك مساطر الاستقبال والاستشارة للمستفيدين.

فضعف إلمام الملزم بالشيء الضريبي ينعكس سلبا على الشراكة[9] وضعف إلمام الملزم بحقوقه يؤثر بدوره على الشراكة الضريبية.

وفي نقطة ثانية لابد من تكريس سلطان القانون فإذا كانت مسؤولية التهرب الضريبي لا تقع فحسب على الملزم، بل يشاركه فيها المشرع الذي يصيغ القوانين الضريبية، وكذا القائم على تنفيذ هذه القوانين، حيث لا تستطيع إدارات الضرائب سواء المكلفة بتحديد الأوعية الضريبية أو المكلفة بالتحصيل، الكشف عن كل تهرب ضريبي، وبالتالي متابعة المتهرب من الضريبة.

فالمشرع من واجبه إقرار عقوبات شديدة تتضمن غرامات مالية كبيرة، وحبسا معقول المدة، لا النص على مجرد غرامات وحتى مدة الحبس المنصوص عليها في حالة العود لا تجعل المتهرب في منأى عن إعادة محاولة التملص من أداء الضريبة ويسير بالتالي على منوال المشرع الفرنسي الذي يعاقب المتهرب من أداء الضريبة بأشد العقوبات .

وتفعيل الرقابة الجبائية لن يتم إلا من خلال: توسيع الاطلاع ليشمل جميع الوثائق التي من شأنها توضيح الوضعية المحاسبية للملزمين كالإطلاع على تقارير مراقب الحسابات[10]، تدعيم مؤسسات الرقابة الجبائية بوسائل حديثة تمكنها من ضبط التجارة الإلكترونية على غرار الدول الأوروبية، ثم تدعيم مؤسسات الرقابة الجبائية بالعدد الكافي للاضطلاع الجيد بمهامها وتفعيل عمل فرقة الأبحاث والتحقيقات وذلك عبر تمكينها من ممارسة حق الزيارة على غرار إدارة الجمارك”.

كما يجب تدعيم دور اللجان الضريبية ( الوطنية والمحلية)، خاصة من خلال اختصاصاتها إذ تختص بالنظر في المسائل الواقعية دون المسائل القانونية التي تتعلق بتفسير نصوص تشريعية أو تنظيمية[11].

هذا إلى جانب تدعيم دور المراقبة القضائية على أعمال الإدارة الجبائية، هذه الأخيرة التي تمتاز بالحياد والاستقلال احتراما لمبدأ المشروعية، ويمكن لهذه المراقبة أن تلعب دورا هاما وحاسما في تحسين العلاقة بين المكلف والإدارة الجبائية، نظرا لما لهذه العلاقة من آثار إيجابية في مجال محاربة التملص الضريبي.

خاصة وأن المجلس الأعلى للحسابات[12] يقوم بدورها هام حماية المال العام من خلال النظر في الحسابات إذ يراقب حسابات المحاسبين العموميين، هذا إلى جانب الرقابة القضائية في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، ويراقب أيضا تسيير المالية العمومية من حيث الكيف ويدلي باقتراحاته حول الوسائل الكفيلة بتحسين طرق هذا التسيير وزيادة فاعليته ومردوديته.

ونظرا لأهميته هاته على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فحصيلة عمله تبقى محدودة جدا نظرا للنقص الحاصل في الموارد المادية[13] والبشرية[14]، فيجب الاهتمام أكثر بهاته المؤسسة.

فلا يكتمل وجه الرقابة الجيدة إلا بدعم القدرة المادية والبشرية للجهاز المشرف عليها، حتى يستطيع مواجهة كل الصلاحيات المنسدة إليه، فلا ينبغي أن ننسى أن فعالية المؤسسات وكفاءتها في تدبير شؤونها تقاس أولا بعدد أعضائها وبمدى أهليتهم وقدرتهم على تحمل المسؤولية وبدرجة الاستقلال المالي والإداري الذي تنعم به الهيئة التي ينتمون إليها[15].

هذا إلى جانب الاهتمام بالقاضي المالي وتحسين محيط اشتغاله[16]، فإقرار  مفهوم جديد لطرق تدبير المال العام وللرقابة عليه رهين بتشييد حكم القانون وبتفعيل دور الإدارة العامة في إنشاء المؤسسات وبالتشبع بالمثل الديمقراطية “[17].
الفقرة الأولى: عقلنة التدبير الضريبي
المطلب الثاني: سبل الحد من ظاهرة التهرب الضريبي
الفصل الأول: التهرب الضريبي والفعالية الاجتماعية
إشكالية التهرب في القانون الضريبي
________________________
[1] – سورة طه، الآية: 134.
[2] –  تتجلى أهداف المراقبة الضريبية في: حفظ حقوق خزينة الدولة وصيانتها – إيقاف مد التهرب الضريبي ، العمل على مساواة الملزمين أمام الضريبة، القضاء على زيادة العبء الضريبي
[3] -يمكن تعريف المراقبة الضريبة: بأنها مجموعة من العمليات والإجراءات التي تقوم بها إدارة الضرائب وذلك من أجل التحقق من المحاسبة التي يمسكها الخاضعون للضريبة.
[4] – لقد خول المشرع سلطة تقديرية للإدارة الجبائية من خلال المادة 213 من المدونة العامة  للضرائب 2009، إذ تنص على انه:” إذا شابت حسابات سنة محاسبية أو فترة لفرض الضريبة إخلالات جسيمة من شانها ان تشكك في قيمة الإثبات التي تكتسبها المحاسبة جاز للإدارة أن تحدد أساس فرض الضريبة باعتبار العناصر المتوفرة لديها.
ومن بين الإخلالات الجسيمة، عدم تقديم محاسبة ممسوكة طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل ، إخفاء بعض الأشرية والبيوع إذ أثبتت الإدارة ذلك، إدراج عمليات صورية في المحاسبة … ”
[5] – فوقف تدبير الفعل الضريبي حصرا على الإدارة خاصة في مجال المراقبة الضريبية جعلها غير قادرة من حيث تعميم المراقبة على جميع من تجب عليهم المراقبة إضافة إلى كون المراقبة التي تقوم بها الإدارة ومهما كان مستوى دقتها لن تكشف جميع حالات التهرب ، اعتبارا لمدى تطور تقنيات التهرب الضريبي وبهذا تصبح عمليات إشراك الغير في المراقبة ضروريا.
[6] – نحاة العماري ،” المنازعات الضريبية”، م.س، ص:  354.
[7] – المرجع نفسه.
[8] – هذا إضافة إلى مراكز أخرى عامة الاستعلام في كل الميادين والذي تستفيد منه الضريبة أيضا كالمراكز الما بين وزاري الخاص بالاستعلام C.IBA ومراكز الإدارة في خدمتكم A.V.S وأيضا مراكز ألو المالية الضرائب “/ وكذلك مراكز الاستعلام لتبادل الرأي والصحافة CIRP الذي يشجع تواجد المتخصصين في المسائل الضريبية والمالية ويساهم في التعريف بباقي المراكز.
[9] – نجاة العماري،” المنازعات الضريبية”، م س ، ص: 356.
[10] –  نصير مكاوي ، “قراءة في آليات محاربة الغش الضريبي بالمغرب”، م.س، ص:  105.
[11] – انظر المادة 225 من المدونة العامة للضرائب للسنة المالية 2009.
[12] – تخضع مسؤولية المحاسبين العموميين لمقتضيات المادة 6 من الظهير رقم 99- 61 وهي هذا من بين اختصاصاتهم القبض القانوني للمداخيل المعهود إليهم بتخليصها والمحافظة على الأموال والقيم المعهود إليهم بحراستها.
[13] – نقصد هنا نظام المعلوميات، فالمعالجة والمراقبة بواسطة الحاسوب، تعمل على توفير الجانب الرقمي في المراقبة وتقلل من الوقت المخصص للعمليات الحسابية ، كما أن الحاسوب الإلكتروني يقوم بتوفير المعلومات الكافية بسرعة الحصول على النتائج المرجوة في الوقت المناسب للمزيد من التوضيح أنظر احميدوش مدني، المحاكم المالية، في المغرب، مطبعة فضالة، المحمدية 2003 ص : 259.
[14] – فإلى حدود سنة 1990 لم يتعد الحجم الإجمالي للموظفين التابعين للمجلس 200 موظف من ضمنهم حوالي 40 قاضيا –1988 200 عضو 72 قاضيا.
-[15]    المصطفى  معمر،” قراءة في مضمون مدونة المحاكم المالية “، م.س،ص: 145.
[16] – كالحد من انتشار جرثومة الرشوة، وتوسيع حجم التواصل القاضي المالي وباقي الأجهزة المكلفة بالرقابة المالية.
[17] – المرجع نفسه، ص: 144.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.