التدبير الإداري العمراني أمام عراقيل الاستثناء وضعف المراقبة

محدودية المراقبة في ميدان التدبير العمراني – الفقرة الثانية: 
لا يمكن في البداية إنكار المكانة التي تشغلها منظومة المراقبة في ميدان التدبير العمراني من منطلق الدور الحاسم الذي تلعبه في ضمان حسن تطبيق القانون وفرض احترامه ومواجهة كل أشكال التنكر والتلكؤ للقواعد والضوابط المعمول بها. غير أن واقع التدبير الإداري اليومي في هذا الصدد يكشف الستار عن محدودية المراقبة وضعف فعاليتها في التصدي للمخالفات والانتهاكات التي يتعرض لها قانون التعمير.

يبدوأن ظاهرة تسييس ميدان التعمير لا تنفصل عن محدودية منظومة المراقبة ؛ ذلك أن التدبير العمراني يخضع أحيانا لمنطق المصالح الانتخابية والسياسية والاعتبارات الزبونية والمحسوبية أكثر مما يخضع لمنطق المصلحة العامة التي تقتضيها التنمية المحلية.  فالكثير من الوسائل والإمكانيات المتاحة أمام رؤساء المجالس الجماعية تبقى غير مستغلة كما هو الحال بالنسبة للمادة 66 من قانون 12.90 بشأن إيداع شكوى لدى وكيل الملك قصد متابعة المخالفة قضائيا.

نفس الأمر تعرفه التجربة الفرنسية، فلقد أشار مجلس الدولة أن اللامركزية هي مصدر المشاكل في مجال التعمير لكون مرتكبي المخالفات قريبين من الجهة التي بيدها تحريك المتابعة القضائية وزجر المخالفات وهو ما يفتح الباب أمام سياسة التغاضي والتواطؤ.[1]

من جهتهم ، يتحمل موظفو الدولة والجماعة وضباط الشرطة القضائية مسؤولية كبيرة في الاختلالات التي يعاني منها التدبير العمراني نتيجة عدم تفعيل المقتضى الوارد في الفقرة الثانية من المادة 66 من قانون 25.90 بخصوص معاينة المخالفة وتوجيه المحضر إلى وكيل الملك. بالإضافة إلى ذلك الوكالات الحضرية، باعتبارها متدخلا رئيسيا في القطاع، تبقى حصيلة عملها في مجال المراقبة جد هزيلة قياسا بحجم الخروقات والانتهاكات التي يعرفها المشهد العمراني. فمقتضيات البند الخامس من المادة 3 من ظهير 30 شتنبر 1993 المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية تبدو غير مفعلة في الغالب لأسباب مرتبطة من جهة بغياب الوسائل،  ومن جهة ثانية بالغموض الذي يلف المقتضيات المنظمة لاختصاصات هذه المؤسسات في ميدان المراقبة سيما المادة 11 من الظهير المشار إليه أعلاه [2] ، كما أنها لاتلتجئ إلى القضاء للطعن في الرخص الإدارية التي لا تحترم رأيها المطابق تحت طائلة عدم الدخول في مواجهات مباشرة مع رؤساء المجالس الجماعية ضمانا لإنجاح مجالسها الإدارية باعتبارهم أعضاء فيها.

بذلك يظهر أن إشكالية المراقبة الإدارية تعد نقطة ضعف الإدارة المحلية المكلفة بتدبير التجمعات العمرانية. وهذا المعطى له تأثير سلبي على المراقبة القضائية، حيث يحول دون انخراط الجهاز القضائي في مسلسل زجر المخالفات والتصدي لكل أشكال الخرق والانتهاك.

هذا مع العلم أن المحاكم بدورها لا تؤازر السلطات الإدارية في مجال محاربة التجزئات والبناء غير القانوني لكونها غالبا ما تدفع بعيوب الشكل كغياب الإشعار بالتوصل الخاص بأمر الهدم وعدم تحرير محضر المخالفات بكيفية صحيحة. فبالإضافة إلى اتسام إجراءات التقاضي بالبطء، فإن العقوبات في حالة صدورها تظل ضعيفة وغير رادعة يصعب في النهاية تنفيذها بل ويستحيل ذلك في معظم الحالات نظرا لاعتبارات ذات صبغة اجتماعية.[3]

كما تجدر الإشارة كذلك، إلى أن جل الأحكام التي تأمر بالهدم غالبا ما لا يتم تنفيذها. في هذا السياق قام بعض الباحثين [4] بالوقوف على الأحكام المعروضة على المحاكم الابتدائية بالدائرة القضائية لمحكمة الاستئناف بمراكش خلال سنة 2004 بشأن قضايا مخالفات البناء، إذ خلص إلى أن تنفيذ الغرامات المالية يأخذ مجراه الطبيعي، في حين لم يعثر على تنفيذ أي حكم في شقه المتعلق بالهدم.

قد يرجع سبب ذلك إلى غموض مسطرة الهدم، إذ أن قانون التعمير وإن كان قد أشار إلى أن الهدم يقع على نفقة المخالف، فإن كيفية إجرائه تبقى غامضة إذ لم يبين ما إذا كان الأمر يتعلق بقيام السلطة الإدارية بالهدم مباشرة بعد حصولها على الحكم الباث بالهدم وتسلك في ذلك المسطرة المتخذة في تنفيذ قرارات الهدم الإدارية ، أم يتعين تطبيق قانون المسطرة المدنية في هذه الحالة وما تقتضيه من إعذار وإنذار حفاظا على حقوق الغير.[5]

كما نشير في هذا السياق إلى مساهمة بعض الخروقات القانونية للمتدخلين في ميدان التعمير في تعطيل الغاية من المراقبة. فعلى سبيل المثال ما يقوم به مجموعة من رؤساء المجالس الجماعية تحت ذرائع عدة في مجال تسليم الشهادة الإدارية المنصوص عليها في المادتين 35 و61 من قانون 25-90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات ،[6] حيث تسلم هاته الشواهد خلافا للقانون في مناطق تستوجب الحصول على إذن بالتقسيم وأحيانا الإذن بالتجزيء، مما أفرز تقسيمات عشوائية أضفيت عنها طابع الشرعية بتراخيص إدارية غير قانونية علما أن هذه الشواهد يتم الاعتماد عليها من طرف العدول والموثقين والمحافظين على الأملاك العقارية ومأموري مصلحة التسجيل في تحرير وتلقي وتسجيل العقود المتعلقة بعمليات البيع والقسمة المشار إليها في المادة 58 من قانون 25-90 السالف الذكر، حيث يساهم هؤلاء المتدخلين عن جهل أو تجاهل في تكريس الخروقات بل وحرمان خزينة الدولة من الضريبة على تقسيم العقارات التي كان منصوصا عليها في ظهير 1989 المتعلق بالضرائب المستحقة للجماعات المحلية وهيئاتها.[7]

لعل المسؤولية في هذا الصدد يتحملها جميع المتدخلين طالما أن عقود البيع والإيجار والقسمة المبرمة خلافا للأحكام المنصوص عليها في القانون 25-90 تعد باطلة بطلانا مطلقا [8] ، حيث يحق للوكالات الحضرية والموثقين والعدول على سبيل المثال الدفع بصعوبة التنفيذ أو مقاضاة رئيس الجماعة الذي أصدر الشهادة باعتبارهم ذوي مصلحة كما تومئ إلى ذلك الفقرة الأخيرة من المادة 72 من القانون 25.90 التي ذكرت الإدارة ضمن الأطراف التي يحق لها إقامة دعوى البطلان.

إن هذه الإجراءات القانونية لا وجود لها على أرض الواقع، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى وجود إرادة حقيقية للتعامل مع المخالفات بالضبط اللازم. لقد أبان الوقوف على العيوب التي تعتور ميدان التعمير سواء في شقه المتعلق بالتخطيط أم ذلك المتعلق بالتدبير أننا في أمس الحاجة إلى إصلاح حقيقي يجعل من المقاربة الشاملة لمعالجة الأوضاع الراهنة مدخله الأساسي. فإلى أي حد تنخرط التوجهات المطروحة الحالية في هذا الطرح خاصة منها تلك المقترحة في إطار مشروع مدونة التعمير؟  وما هي الإجراءات والسبل  الكفيلة بتأهيل التدخل العمومي في ميدان التعمير حتى يستطيع رفع التحديات وكسب الرهانات؟ إن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، ستشكل موضوع الفصل الموالي من هذا القسم.
المطلب الثاني: التدبير الإداري أمام عراقيل الاستثناء وضعف المراقبة
إدارة التدبير العمراني بالمغرب أمام إكراهات الواقع
الفصل الأول : التدخل العمومي في ميدان التعمير بين عراقيل التخطيط وإكراهات التدبير العمراني
القسم الثاني: حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

_____________________________________
[1] Auby (Jean Bernard) Perinet Marquet (Hugos) : le droit de l’urbanisme et de la construction. 6ème édition, Montchretien, Paris, 2001, p: 200.
[2] تقضي هذه المادة في فقرتها الثانية بما يلي: ” ويوجه مدير الوكالة الحضرية المحاضر التي يحررها المأمورون المشار إليهم أعلاه إلى السلطات المختصة لاتخاذ قرار في شأنها وفق النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل”. حيث يبقى التساؤل مطروحا حول المعنى المقصود بعبارة السلطات المختصة ومدى إمكانية إدراج وكيل الملك ضمنها ، علما أن الممارسة أفرزت عدم رفع محاضر المخالفات لهذا الأخير.
[3] المائدة المستديرة حول تقييم تطبيق مقتضيات النصوص التشريعية والتنظيمية المعمول بها في ميدان التعمير، المنظمة من طرف وزارة إعداد التراب الوطني والبيئة والتعمير والإسكان بتاريخ 28 أكتوبر 1999، ص: 15.
محمد النجاري : دور القضاء في تفعيل قوانين التعمير. مجلة المعيار، العدد 36، ص:47.[4]
محمد النجاري : مرجع سابق، ص: 47.[5]
هذه الشهادة يثبت من خلالها الرئيس أن العملية موضوع الطلب لا تخضع لنطاق قانون 25-90 بمعنى أن العملية لا تعد لا تقسيما ولا تجزيئا.[6]
الملاحظ أن القانون رقم 06-47 المتعلق بجبايات الجماعات المحلية قد ألغى هذه الضريبة.[7]
المادة 72 من القانون 25-90، [8]

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.