آثار البطء الإداري على إنتاج وثائق التعمير

تداعيات البطء الإداري على إنتاج وثائق التعمير – الفقرة الثانية : 
يعتبر عامل الوقت أحد الانشغالات الرئيسية لقانون التعمير، إذ يلعب دورا مهما في فعالية أو عدم فعالية أدوات التخطيط العمراني. غير أن فكرة تخطيط التنمية المحلية على مستوى الزمن لا تؤخذ في الحسبان من قبل المسؤولين الإداريين. ولقد أثبتت الممارسة أن عمليات إعداد وثائق التعمير ودراستها تعرف تأخرا كبيرا يهدد قدرتها على مواكبة التحولات الديموغرافية والعمرانية المتسارعة ومجاراة الديناميات السوسيو-اقتصادية التي تتفاعل داخل المجالات الترابية.

والشاهد على ذلك أن الالتزام بالأجل المحدد في الصفقة العمومية يمكن من تطبيق محتوى وثيقة التعمير وإنجازها على نحو جيد. والعكس يصح، فكلما تأخرت المسطرة إلا وتسبب ذلك في خلق صعوبات وعوائق.[1]

من الملاحظات المسجلة في هذا الصدد الكيفية التي يتم بها اختيار مكاتب الدراسات، فرغم كون مرسوم 2007 المتعلق بالصفقات العمومية ينص على اختيار “أحسن عرض ” وليس “أقل عرض” ، فإن الممارسة تثبت أن الإدارة المكلفة بإبرام الصفقة غالبا ما ترجح كفة الفريق الذي يكون عرضه المالي أقل. وهو ما يفيد تغييب معيار الجودة في معادلة إعداد وثيقة التعمير. إلى جانب ذلك، فإن جل مكاتب الدراسات لا تحترم للمواصفات التي تقدمها عن فريقها من حيث الطاقم البشري ووسائل العمل التقنية، بحيث تهيمن نظرة التقني وتغيب في الغالب الأعم من الحالات مساهمة عالم الاجتماع وعالم الجغرافيا ورأي الاقتصادي… والذي قد لا يشارك على الإطلاق في هذه الدراسة[2]؛ الأمر الذي يؤثر لا محالة على جودة وثيقة التعمير. كما تجدر الإشارة كذلك إلى عدم التزام المتعاقد بالأجل المحدد بموجب المنشور رقم 005 [3] لإنجاز الدراسات المتعلقة بمشروع تصميم التهيئة والمتمثل في 18 شهرا. ويظل السبب الرئيسي في هذا البطء المسطري متمثلا في افتقاد العديد من المتعاقدين للخبرة والتجربة والتخصص في ميدان التعمير وافتقارهم للوسائل التقنية والبشرية التي تسمح لهم بتنفيذ التزاماتهم إزاء الإدارة في أجال معقولة ، فضلا عن عدم توفر الإدارة المعنية- لا سيما الوكالة الحضرية- على الأطر المؤهلة الكافية لتتبع عمل هذه المكاتب ومراقبتها والمساهمة في تسريع وتيرة الإنجاز.

ويساهم قانون التعميرهو الآخر في هذا البطء والتأخر الذي يعرفه مسلسل إنتاج وثائق التعمير بفعل عدم تحديد المشرع لتاريخ بدإ وانتهاء كل مرحلة من المراحل التي تقطعها عملية الإعداد، حيث يبقى ذلك خارج أي ضبط زمني لاستلام مواقف وآراء مختلف المصالح والهيآت الإدارية المعنية بالمشروع، الأمر الذي يجعل الكثير منها يحتفظ بالمشروع مدة طويلة ترهن معها مستقبل التهيئة العمرانية والاستجابة للحاجيات المتجددة للواقع الاقتصادي والاجتماعي، من ذلك مثلا غياب نص قانوني يجبر الوالي أو العامل بالدعوة إلى عقد اجتماع اللجنة التقنية المحلية داخل آجال معينة، وكذا عدم وجود أي إجراء قانوني يلزم الجماعات الحضرية والقروية بتاريخ بدء البحث العلني ، مما يزيد وثائق التعمير بطء وبعدا عن الواقع المعني بالدراسة.

ويتفاقم المشكل أكثر مع تعدد المتدخلين في مختلف مراحل الإعداد وتضارب المصالح ووجهات النظر والمواقف الإدارية بخصوص اختيارات التهيئة في ظل هشاشة قنوات التنسيق بين الجهات المتدخلة وزخم مسطري وإجرائي مبالغ فيه وغير مبرر أحيانا لتعارضه مع متطلبات السرعة ومكانة الوقت ، علما أن التخطيط العمراني الحديث أصبح يقاس ليس بالمجال فقط، وإنما بواسطة الربط المحكم بين البعدين المجالي والزمني في توقع الصورة المستقبلية للتجمعات العمرانية.

من الحالات الواقعية التي تكشف النقاب عن غياب البعد الزمني في معادلة التخطيط، مشروع تصميم التهيئة للسوالم الساحل بإقليم سطــات، حيث تم افتتاح مرحلة البحث العلني يوم 12 دجنبر 2001 إلى غاية 18 يناير 2001، لكن لم يتم إرجاعه إلى الوكالة الحضرية من قبل السلطات الإقليمية إلا بتاريخ 23 يوليوز 2003، في وقت أصبحت معه مقتضيات المشروع غير لازمة التطبيق استنادا إلى مضمون الفقرة الثالثة من المادة السابعة والعشرون (27) من قانون التعمير رقم 12.90[4]، حيث يلاحظ أنه بين 1989 و 1998 قد تمت برمجة وإبرام صفقة 218 تصميم للتهيئة لم تتم المصادقة سوى على 23 تصميم منها تطلب بعضها أكثر من تسع سنوات لإعدادها فقط.

أما على مستوى تصاميم تنمية العمارات القروية فقد شرع منذ 1990 في إنجاز 110 تصميما لم تتم المصادقة سوى على 15 منها إلى غاية 1998، علما أن إشكالية البطء في الإعداد والتشاور والمصادقة التي عرفتها تصاميم للتهيئة ، انتقلت عدواها إلى تصاميم التنمية وكذلك إلى المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية ، حيث تم إعداد ما يناهز 50 مخططا لم يحض بالمصادقة إلا 18 منها فقط.[5]

لا يقتصر مشكل التأخر والبطء في مسلسل إعداد وثيقة التعمير فقط على مرحلتي الدراسة والبحث العلني بل يشمل كذلك مرحلة المصادقة على مشاريع وثائق التعمير. فالكثير منها لم يصدر بشأنها النص القاضي بالمصادقة الذي يشكل إيذانا بميلاد الوثيقة قانونيا ومنحها القوة النفاذية اللازمة. ومن الأمثلة على ذلك ، مشروع تصميم التهيئة القطاعي لإعادة هيكلة حي المصلى بوادي زم بإقليم خريبكة الذي لم تتم المصادقة عليه لحد الآن رغم عرضه على أنظار اللجنة المركزية وإحالته على الوزارة الوصية على قطاع التعمير بتاريخ 15 دجنبر 2005. الوضع نفسه ينطبق على مشروع تصميم التهيئة لمدينة ورزازات الذي يفتقد لحد الآن لمرسوم المصادقة، الأمر الذي لا يترك للإدارة أية خيارات أخرى سوى الاستمرار في اعتماد هذا المشروع كأساس مرجعي لدراسة الملفات المتعلقة بالتدبير العمراني رغم كونه أضحى غير لازم التطبيق من الناحية القانونية. بل أكثر من ذلك، فإن عدم صدور هذا المرسوم يدخل ارتباكا كبيرا في عمل الإدارات والمصالح المعنية في إنجاز التجهيزات والمرافق التي تهمها لافتقادها لإعلان المنفعة العامة الذي يخول نزع ملكية الأراضي المستهدفة لاحتضان تلك التجهيزات من جهة ويعطى الحق للملاك في استرجاع أراضيهم من جهة أخرى.

ويبقى المثال الصارخ على هذا التغييب للبعد الزمني متمثلا في تصميم تهيئة مدينة برشيد الذي استغرقت مدة خروجه إلى حيز الوجود 20 سنة.[6] وبالتالي فإن الكثير من وثائق التعمير تولد ميتة ومتجاوزة لحظة الموافقة عليها ، مما يساهم في تعثر سياسة التخطيط العمراني برمتها، و جعل المسؤولون على قطاع التعمير ذاتهم يوجهون عدة انتقادات لواقع التخطيط العمراني تم تلخيصها في وثيقة التشاور لمدونة التعمير التي وزعتها وزارة الإسكان والتعمير على المشاركين في ورشات التشاور بالأساس في عجز وثيقة التعمير عن تدبير التهيئة المجالية وبطء وتعقد مساطر الإعداد والمراجعة والمصادقة ، إضافة إلى عدم مسايرة مقترحات التهيئة المجالية للواقع الاقتصادي والاجتماعي وغيرها.[7]

لقد حاول مشروع مدونة التعمير أن يعطي بعض الإجابات التي تتغيى تبسيط الآجال وضبطها ، حيث عمد إلى تقوية عدم التركيز بإعطاء صلاحية المصادقة على مخططات التعمير للوالي. إلا أنه في المقابل اقترح موافقة الجماعات المحلية،  الأمر الذي من شأنه أن يعيد تجربة ظهير 1952 في هذا الشأن الذي ترتبت على مسطرته إبقاء مجموعة من وثائق التعمير سنين طويلة دون مصادقة نتيجة صراعات سياسية داخل المجالس الجماعية.

هذا، و نسجل للمشروع إيجابية تحديد آجال بالنسبة للعامل قصد المصادقة على تصميم التهيئة خلافا لما هو سائد بهذا الخصوص. [8] بالإضافة إلى إعفاء تعديل تصميم التهيئة الجزئي الناتج عن اعتبارات اقتصادية واجتماعية من اللجوء إلى مرحلة البحث العمومي . وإن كنا نقترح في المقابل التفكير في صيغ عملية لإشراك المواطنين دون إطالة المسطرة وتعقيدها. ورغم ذلك يبدو أن المشروع لم يعط إيجابات واضحة بشأن الإشكالات المطروحة على مستوى تحديد تاريخ بدإ وانتهاء مراحل عملية الإعداد.
المطلب الثاني: التخطيط العمراني: الإكراهات المالية والبطء الإداري وغياب الإنشغال البيئي
المبحث الأول: أسباب تعثر التدخل العمومي في ميدان التخطيط العمراني
الفصل الأول : التدخل العمومي في ميدان التعمير بين عراقيل التخطيط وإكراهات التدبير العمراني
القسم الثاني: حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

_____________________________________________
[1] عبد الرحمان البكريوي: التخطيط العمراني وإشكالية تنفيذ وثائق التعمير. مداخلة في اليوم التشاوري والدراسي بشأن مدونة التعمير المنظم من طرف الوكالة الحضرية لسطات بتنسيق مع جامعة الحسن الأول بتاريخ 19 مارس 2006 بكلية الحقوق بسطات.
[2] عبد الله حداد: صفقات الأشغال العمومية ودورها في التنمية.  منشورات عكاظ، طبعة 2001..أشار إليه عبد الله اسرموح : مرجع سابق، ص : 202
[3] منشور وزير الداخلية رقم 005 م ع ت هـ إ ت بتاريخ 15 يونيو 1995 المتعلق بتصميم التهيئة.
[4] ورد في الفقرة الثالثة من هذه المادة ما يلي: “… بيد أنه إذا لم يتم نشر النص المشار إليه في الفقرة الأولى من هذه المادة خلال أجل إثني عشر شهرا يبتدئ من تاريخ اختتام البحث العلني المتعلق به فإن أحكام المشروع تصير غير لازمة التطبيق”.
عبد الرحمن البكريوي : التخطيط العمراني وإشكالية تنفيذ وثائق التعمير. مرجع سابق: ص4 و 5.
[5] الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالإسكان والتعمير:وثيقة التشاور بشان مدونة التعمير. فبراير 2006، ص31.
[6] El Idrissi (Abdelwahed) : planification urbaine et protection contre les risques urbains, cas du plan d’aménagement de Berrechid. Mémoire de DESA en urbanisme et aménagement, université Hassan II Ain Chok, faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Casablanca, 2005-2006 p :96.
[7] الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالإسكان والتعمير : وثيقة التشاور، مرجع سابق، ص: 20.
[8] المادة 35 من مشروع مدونة التعمير

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.