صعوبة تطويع الأنظمة العقارية الخاصة لخدمة التخطيط العمراني

حدود التدخل العمومي في ميدان التعمير وآفاقه – القسم الثاني:
يمكن اعتبار سياسة التعمير إحدى المخرجات التي تتغيى الدولة من ورائها إشباع حاجيات السكان وتنظيم المجال عبر توظيفها لآليات التخطيط والتدبير العمرانيين. إلا أن هذه السياسة، مهما بلغت أهمية طموحاتها، تظل محدودة النتائج وضعيفة المردودية في غياب معالجة واقعية وشاملة لمختلف المشاكل والاكراهات التي تؤثر بشكل سلبي على أهدافها وتحد من فعالية الإجراءات المتخذة بشأنها.

فإذا كان التخطيط العمراني يعد سياسة توقعية تنهجها الدولة بهدف تحقيق تنظيم عقلاني للمجال طبقا لضوابط وقوانين محددة، فإن ذلك يصطدم بالعديد من الصعوبات التي تختلف باختلاف درجة تطور المجتمع والميكانيزمات المتحكمة فيه. فبالرغم من المجهودات المبذولة من قبل المتدخلين العموميين للحد من مظاهر الأزمة العمرانية، إلا أن النتيجة لا ترقى إلى المبتغى، مما يؤكد وجود عوائق حقيقية تحول دون تطبيق سياسة عمرانية ناجعة وفعالة.

أما على مستوى التدبير العمراني ، فإن الأمر لا يختلف عما سبق ذكره، حيث أن واقع الحال ينم عن محدودية الدور الذي تقوم به الدولة نتيجة الصعوبات التي أفرزها توزيع الاختصاصات وغياب الوسائل الناجعة للتدخل إضافة إلى عدم فعالية الإجراءات المتخذة. ولعل النقاش الدائر حول التعمير بالمغرب يبين الآثار التي خلفتها الأزمة العمرانية بالمغرب والحاجة إلى معالجة الاختلالات الاجتماعية والمجالية المتجلية.

وبناء على ذلك، ومن أجل رصد العوائق التي تكبح تحقيق أغراض التعمير والآفاق الممكنة، يتطرق هذا القسم إلى تشخيص واقع الحال من خلال العوائق التي نميز من خلالها بين تلك التي تهم مجال التخطيط العمراني والتي تشمل الجانب العقاري وما يطرحه من إكراهات ؛وتلك التي تهم الجانب المالي وما يسببه من مشاكل. هذا إلى جانب البطء الإداري وضعف قنوات التنسيق وتعثرها وكذا الترهل الإداري وسلبياته.  كلها عوامل أنتجت واقعا عمرانيا  مختلا تغيب فيه الجودة ويضعف فيه التنفيذ. وتلك التي تتعلق بالتدبير العمراني والتي يظل الإكراه العقاري حاضرا فيها كذلك كعائق يحد من ترجمة الأهداف المتوخاة بتعدد أنظمته وازدواجية نظامه القانوني من ناحية، وما يطرحه تعامل القضاء معه من تداعيات على فعالية التدبير العمراني من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى الإكراهات السياسية وغياب هبة القانون وهشاشة التدبير الإداري وضعف المراقبة. كلها عوامل أفرزت تدبيرا عمرانيا يفتقد إلى العقلانية والتناغم ويتميز بالعشوائية والتناقض في بعض تجلياته (الفصل الأول).

أما الفصل الثاني فسيقف على التوجهات الراهنة في مجال التعمير من خلال قراءة نقدية في مشاريع مطروحة من حيث درجة استيعابها لمكامن الخلل ومدى فعالية الإجابات التي تطرحها خاصة على ضوء مشروع مدونة التعمير، وذلك بإبداء رأينا  فيها في أفق اقتراح البدائل والحلول التي نراها كفيلة بتجاوز الوضع الحالي.

الفصل الأول : التدخل العمومي في ميدان التعمير بين عراقيل التخطيط وإكراهات التدبير العمراني
يكتسي قطاع التعمير أهمية بالغة في مسلسل التنمية المحلية بالنظر إلى الدور الذي يلعبه في تأهيل المجالات الترابية والرفع من قدراتها التنافسية على مستوى استقطاب الاستثمار وخلق الثروة وتحسين إطار عيش المواطنين. فبواسطة أدوات التعمير، يمكن للإدارة المحلية أن تضع تخطيطا ملائما وتدبيرا سليما لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. غير أن تحقيق هذا المبتغى غالبا ما تعترضه اكراهات شتى تحد من فعالية سياسة التعمير وتعيق نهوضها بدورها التنموي في الاستجابة للحاجيات الملحة ومواجهة التحديات المتزايدة.

هذه الإكراهات نقسمها منهجيا إلى مبحثين، نتناول في الأول تلك التي تتعلق بالتخطيط العمراني سواء تعلق الأمر بالعقار أم بالإكراه المالي أو البيئي بالأساس، في حين يرصد المبحث الثاني الإكراهات والعوائق التي تكبح تنزيل سياسة واضحة للتدبير العمراني والتي لا تختلف جوهريا على تلك التي تهم مجال التخطيط العمراني.

المبحث الأول: أسباب تعثر التدخل العمومي في ميدان التخطيط العمراني
إذا كانت النصوص القانونية المنظمة لمجال التخطيط العمراني قد تبدو واضحة، فإن الممارسة تكشف عن وجود خلل بنيوي بين نوايا المخطط وواقع التخطيط مرده إلى عدة اعتبارات يبرز أهمها في تلك المتعلقة بعدم استحضار البعد العقاري وآثاره ومدى تناغم أنظمته مع قوانين التعمير ليس فقط على التخطيط العمراني بل كذلك على التدبير العمراني الذي يعتبر التنزيل الطبيعي لتوجهات عقبات التخطيط، الأمر الذي يتجلى من خلال وثائق التعمير التي كانت موضوع انتقادات حول مردوديتها وفعاليتها (موضوع المطلب الأول). هذا بالإضافة إلى ما تطرحه الإكراهات المالية وضعف التنسيق وغياب الإنشغال البيئي من عقبات تعترض تنزيل بنود وثائق التعمير على أرض الواقع (المطلب الثاني)، الأمر الذي نتج عنه تنامي مظاهر الفوضى العمرانية والعجز الحاصل في البنيات التحتية والتدهور البيئي إضافة إلى عدم مسايرة آليات التخطيط المعتمدة للدينامية الاقتصادية والسوسيو مجالية. فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟

المطلب الأول : صعوبة تطويع الأنظمة العقارية الخاصة لخدمة التخطيط العمراني: الأحباس المعقبة نموذجا
تكمن المشاكل التي يطرحها العقار في ارتباطه بالتعمير عموما والتخطيط العمراني على وجه الخصوص في تعقد المقتضيات القانونية، حيث يوجد المغرب في مفترق الطرق حول المسألة العقارية التي ترتد إلى وجود نظامين عقاريين اثنين هما:
– نظام العقارات المحفظة الخاضعة لظهيري 9 رمضان 1393هـ الخاص بالتحفيظ العقاري و19 رجب 1331 هـ الخاص بالحقوق العينية المطبقة على العقارات المحفظة.
– نظام العقارات غير المحفظة المنظم بمقتضى أحكام الفقه المالكي وقانون الالتزامات والعقود وبعض الأعراف.[1]

وإلى جانب هذين النظامين العقاريين، توجد منافع متنوعة ومتعددة ضاربة في القدم تشغل العقارات العائدة للدولة مثل منافع الكيش ومنافع الجماعات السلالية ومنافع الجزاء والجلسة والزينة وهي مثقلة للأراضي الحبسية وعقارات الدولة حتى عدت هذه المنافع لذاتها إكراهات ضد إدماج العقارات في التنمية بسبب الصعوبات المفروضة على صعيد الواقع[2] (الفقرة الأولى) وفي هذا السياق سنمثل لذلك بالأحباس المعقبة وما تطرحه من إشكالات وعوائق تقف حجرة عثرة أمام تنفيذ مضامين التخطيط العمراني (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: آثار الصعوبات العقارية على التدخل العمومي في ميدان التخطيط العمراني
يعتبر العقار المادة الخام للتخطيط العمراني، غير أنه ليس سلعة محايدة كما هو الشأن بالنسبة لباقي السلع المتداولة في السوق، فعدد من العوامل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأيضا السياسية تحدد أسعاره وتملكه واستعمالاته.[3]. كما يعتبر كذلك من العناصر الأساسية ذات الوقع القوي على برامج التهيئة العمرانية باعتباره مفتاحا للتعميرClef de l’Urbanisme. [4]
وما دامت غاية التعميرهي وضع إطار مناسب لتوزيع السكان وتنظيم أنشطتهم المتنوعة، فإن لهذا التنظيم ركيزة أساسية يقوم عليها هي الأرض.
والثابت أن المشكل العقاري ينطلق من طبيعة أنماط الملكية العقارية ووضعيتها القانونية حيث التعدد والتعقد. فإذا كان البعض يرى أن التهيئة الحضرية المثلى تتطلب الحرص على عدم إخضاع المخططين لأي إكراه كيفما كان نوعه وضمان الحرية التامة لهم في مزاولة عملهم وإبداعهم لتمكينهم من إعداد وثائق التعمير، فإنه في اعتقادنا وعلى العكس من ذلك، يجب استحضار العقار وإشكالاته إبان التخطيط العمراني ما دام هذا التخطيط لن تقوم له قائمة ما لم تسمح الأراضي التي سيطبق عليها بذلك، حيث نتساءل عن الجدوى من وضع المخططات مهما كانت جودتها إذا تبين في أرض الواقع أنها غير قابلة للتطبيق.[5]

ويطرح هذا الوضع تناقضا صارخا بين أراض تم فتحها للتعمير وخصصت لإنجاز التجهيزات والمرافق العمومية بموجب وثائق للتخطيط الحضري مصادق عليها من جهة، وقواعد قانونية متعلقة بالعقار من جهة أخرى، الأمر الذي يعرقل تنفيذ هذه الوثائق، ويشكل في الوقت نفسه أرضية مناسبة لظهور وانتشار البناء غير القانوني، وغيرها من المشاكل المعيقة للتنمية الحضرية.[6]

فعلى سبيل المثال ما عرفته مدينة فاس ونواحيها في العقدين الأخيرين، حيث تم فتح مناطق جديدة للتعمير على مساحة تقدر ب 1000 هكتار من أراضي الإصلاح الزراعي (أي 25% من المساحة المفتوحة للتعمير بفاس) و1062 هكتار من أراضي الجماعات السلالية. بيد أن تنفيذ مقتضيات وثائق التعمير اصطدم بالوضعية القانونية لهذين النمطين من الملكية العقارية التي لا تسمح بالنسبة لأراضي الإصلاح الزراعي سوى بالاستغلال لأغراض زراعية محضة وبالنسبة لأراضي الجماعات السلالية سوى بحق التمتع لفائدة ذوي الحقوق.[7]

أما على مستوى مدينة وجدة ، فإن ثمة رصيد من الأراضي المحبسة، خاصة بوسط المدينة، تنتشر بها بناءات عشوائية وتأوي أسرا تفتقر إلى أدنى المرافق والتجهيزات الأساسية، مما أفضى إلى تشويه المشهد العمراني والمعماري للمدينة وإعاقة شق الطرق المهيكلة المبرمجة في إطار تصميم التهيئة المصادق عليه. ويزيد عدد الأراضي المحبسة بهذه المدينة عن 30 بقعة تمتد على مساحة إجمالية تتجاوز 61 هكتارا تم إنجاز ما ينيف عن 750 بناء عشوائي بها وتتميز هذه الأراضي بتشتتها وصغر مساحتها، خاصة بجماعة سيدي زيان، حيث لا يتعدى معدل المساحة بها 5000 متر مربع.[8]

فممالا شك فيه أن هذا الوضع قد أفرز معادلة يصعب حلها نتيجة التعارض القائم بين أراض تم فتحها في وجه التعمير – بموجب وثائق للتعمير مصادق عليها بمرسوم- وقواعد قانونية ترتبط بالعقار لا تسمح بتعبئتها لخدمة التعمير، مما عرقل تنفيذ وثائق التعمير وشكل في المقابل أرضية خصبة لانتشار السكن غير اللائق بالأساس بل ووسع الهوة بين الأهداف المحددة والنتائج المحققة. ضف على ذلك ما تثيره أراضي الجيش من مشاكل تشبه في مجموعها-إلىحد ما- تلك التي تطرحها الأراضي الجماعية، خاصة فيما يخص عملية اقتنائها من قبل السلطات العامة لإقامة أحد المشاريع ذات النفع العام[9] .
هذه فقط بعض الأمثلة التي تبين ن الوضعية العقارية لهذه الأنظمة تطرح عدة عراقيل وإكراهات يستعصي معها إيجاد تخطيط عمراني منسجم.

وعلى صعيد آخر، فإن الأراضي غير المحفظة لا يمكن تهيئتها ولا تجزئتها، الشيء الذي يجعل جزء من الوعاء العقاري الذي تم رصده من قبل وثيقة التعمير غير قابل للتعبئة ما دام على هذه الوضعية. كما يمكن استبعاد أيضا الأراضي التي تخضع للنظام الخليفي؛ أي تلك الواقعة في المنطقة الشمالية التي كانت خاضعة للحماية الإسبانية والتي بالرغم من تحفيظ بعضها، إلا أن هذا التحفيظ المنظم حسب الظهير الخليفي الصادر في فاتح يونيو 1914 لا يعترف به بصفة مطلقة ظهير 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري.[10]

و تجدر الإشارة كذلك إلى أن الطبيعة الطبوغرافية للسطح تشكل هي الأخرى إحدى المعيقات التي قد تؤثر سلبا على سياسة التخطيط العمراني إما بسبب كون العقار معرضا لمخاطر الفيضانات وانجراف التربة أو وجود تضاريس وعرة خاصة وأن واضعي وثائق التعمير لا يأخذون بعين الاعتبار هذا المعطى كما هو الحال مثلا بالنسبة للمخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية بمدينة طنجة المصادق عليه سنة 1997 الذي فتح طرقا دون مراعاة الحالة الطبوغرافية للأرض [11] إضافة إلى تصميم تهيئة برشيد الذي فتح مناطق للتعمير تبين فيما بعد أنها مهددة بالفيضانات.

من جانب آخر، يلاحظ أن سياسة التعمير لم تتم مواكبتها بتخطيط عقاري مبني على تكوين احتياطات عقارية عمومية كسلاح فعال للتحكم في السوق العقارية وتيسير سبل تنزيل اختيارات وثائق التعمير على أرض الواقع[12].
في هذا المضمار، أثبتت تجربة المهندس المعماري إيكوشار Ecochard في ميدان التعمير كيف أن تدبير حاضر ومستقبل التوسع العمراني رهين بمباشرة عمليات واسعة لشراء الأراضي، حيث تم تسخيرها لخدمة سياسته الإسكانية التي أثمرت نتائج مهمة بفضل ارتكازها على قاعدة عقارية في المتناول[13].
ويكشف تحليل الإشكالية العقارية في علاقتها بالتخطيط العمراني عن غياب سياسة واضحة من قبل الدولة بهذا الخصوص، وينم عن استمرارية التدخلات ذات الطبيعة القطاعية وذلك في غياب استراتيجية شاملة للتدبير العقاري.
ولاستجلاء هذا الوضع ، نقف في النقطة الموالية على مثال من أمثلة الأنظمة العقارية الخاصة المتمثلة في الأحباس المعقبة ومدى تأثيرها على مسار التنمية العمرانية.

الفقرة الثانية: الأحباس المعقبة بين حاجيات التعمير وصعوبة التطويع
يعرف المشرع المغربي الأحباس انطلاقا من الفصلين 73 و 74 من ظهير 2 يونيو 1915 المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة بأنه أملاك يوقف كل مالك مسلم حق التمتع بها لفائدة مستفيدين يعينهم بمحض إرادته، ويكون الوقف إما لصالح الدولة فيكون وقفا عموميا أو لصالح زاوية أو عائلة معينة أو خواص فيكون بذلك وقفا خصوصيا.

والوقف المعقب أو كما يسميه أهل الشرق بالوقف الذري أو الأهلي يدخل في هذا الإطار باعتباره تحبيس أملاك على أشخاص معينين من صلب المحبس غالبا أو غيرهم من أفراد عائلته، وهذا النوع من الوقف جائز ومشروع وقد استدل العلماء على مشروعيته بمجموعة من الأدلة [14].
وتمثل الأحباس المعقبة التي تراقبها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية احتياطا هاما يمكنه أن يساهم في تسهيل عمليات التعمير خاصة في المناطق الحضرية وضواحيها[15]. لكن صلابة هذا النوع من العقارات من حيث المقتضيات القانونية التي تنظمه من ناحية (أولا) وطرق تدبيره من قبل سلطة الرقابة المتمثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من ناحية أخرى (ثانيا) تجعله مستعصي التعبئة لخدمة متطلبات التعمير.  فكيف إذن تؤثر صلابة هذه النصوص على التنمية العمرانية؟ وإلى أي حد يخدم التدبير الإداري الحالي للأحباس المعقبة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية متطلبات التعمير؟

أولا: صلابة الحبس المعقب ومدى تأثيرها على التنمية العمرانية.
رغم الآدوات القانونية المتمثلة في مسطرة التصفية والمعاوضة وإمكانية مباشرة مسطرة نزع الملكية، فإن واقع الممارسة يثبت أن هذا النوع من العقارات يظل مع ذلك صلبا لا يسعف مجاراة الدينامية السوسيومجالية والاقتصادية والعمرانية ويحول دون تنفيذ مقتضيات وثائق التعمير واختيارات التهيئة.

لقد كان نظام الحبس المعقب منسجما ومتناغما مع ظروف اقتصادية واجتماعية تتباين باختلاف الأزمنة والأمكنة، حيث أن هذه المؤسسة الحبسية كانت تلبي حاجيات مجتمع تسوده علاقات اقتصادية ترتكز أساسا على تكثلات عائلية تحرص على المحافظة على ثرواتها المتكونة أساسا من عقارات فلاحية.
وما دامت دينامية المجال تتم عبر تفاعلاته بالمجتمع وبقضايا الاقتصاد، فإن هذا المجال لا يشكل قيمة ثابتة وجامدة، بل يتغير ويتطور بتطور مضمونه الاجتماعي باعتباره منتوجا اجتماعيا يتفاعل مع الثقل الديموغرافي والاقتصادي والسياسي.
وانطلاقا من ذلك فإنه من الصعب أن نتصور حبسا معقبا بمواصفاته وحيثياته المتحكمة فيه والمقتضيات المنظمة له يصمد أمام التحولات التي يشهدها إنتاج وهيكلة المجال والميكانزمات التي تؤطره.

وينتصب كمثال حي في هذا السياق الرسم العقاري عدد 13990س المحبس تحبسا معقبا بجماعة سيدي رحال الشاطئ التابعة لإقليم سطات على مساحة 491 هكتار و30 آرا. ويوجد العقار على شريط ساحلي متاخم لمدينة الدار البيضاء الكبرى ، ويتميز بخصائص تؤهله ليكون قطبا عمرانيا وسياحيا بامتياز. علما أن هذا العقار مفتوح في وجه التعمير بمقتضى تصميم تهيئة مصادق عليه[16] . ومن ثمة فإن تعارضا مهولا قد حصل بين إرادة المحبس وسلطة الرقابة من جهة وبين متطلبات التعمير والتهيئة العمرانية من جهة أخرى، طالما أن الرغبة في الإبقاء على الطابع الفلاحي لهذا العقار اصطدمت بواقع سوسيو مجالي يتميز بدينامية كبيرة. ولقد أفرز هذا التناقض واقعا نشازا تمثل فيما يلي :
–    انتشار معاملات وتصرفات عقارية على هامش الشرعية تمثلت في بيوعات وأكرية عرفية تفتقد لأبسط الشروط القانونية المتعارف عليها في مجال توثيق العقود؛
–    استفحال السكن غير اللائق، حيث يغطي البناء غير القانوني وغير المنظم بدوار الشرفاء مساحة 80 هكتارا يأويها ما ينيف عن 5000 عائلة؛
–    إنشاء 14 تجزئة عقارية تفتقد إلى الشروط المنصوص عليها قانونا على مساحة تفوق 120 هكتارا.

وقد ترتب عن هذا الوضع اختلالات عمرانية عميقة عكست عجزا حضريا صارخا بالنظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء انتشار أشكال مجالية متردية في تنافر مع مرامي التخطيط العمراني عموما ومضامين تصميم التهيئة على وجه الخصوص. مما فرض وعيا بضرورة وأهمية معالجة هذه الوضعية، حيث تم سلك مسطرة التصفية المنصوص عليها في ظهير 08 أكتوبر 1977 السالف الذكر فضلا عن عدة مراسلات إدارية شملت القطاعات المعنية لكل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والوزارة الأولى والوزارة المكلفة بالتعمير والإسكان والوكالة الحضرية.

ورغم أن ملف التصفية قد تم إعداده منذ 17 ماي 2000[17]، إلا أنه لم يبارح مكانه لكون الإجراءات القانونية المرتبطة بهذا الخصوص غير ميسرة بالنظر إلى تعدد المحبس عليهم وعدم تيويم الرسم العقاري المعني من جهة،  وعدم تطابق التصرفات العقارية على أرض الواقع مع المنطق القانوني الذي يفرضه التعامل مع الحبس المعقب من جهة أخرى،  دون إغفال عدم نجاعة التدخل الإداري في هذا الشأن؛ وهو ما يدفع إلى التساؤل عن مكمن الخلل،    أ في متن النص أم في تدبير الرقابة على الحبس المعقب؟

ثانيا- التدبير الإداري للحبس المعقب: مساهمة في الحل أم تعميق للأزمة؟
لا بد من التذكير في البداية بمسطرة تصفية الحبس المعقب التي تتم بواسطة  لجنة يرأسها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية. هذا الأخير الذي يتمتع وحده بصلاحية إحالة ملفات التصفية على هذه اللجنة التي تتخذ قراراتها بالأغلبية التي تفضي إما إلى الأمر بقسمة العقار أم ببيعه في المزاد العلني عند تعذر القسمة.

في هذا الإطار نشير إلى أن ملف الحبس المعقب المراد تصفيته يتكون من وثائق محددة في الفصل التاسع من مرسوم 18 أبريل 1979[18]؛  وهي نسخة من رسم التحبيس ومعلومات عن الحالة المدنية للمحبس والمحبس عليهم بالإضافة إلى وثيقة عدلية تتضمن وصفا دقيقا للعقار المعني.
فإذا كان تكوين الملف المذكور بهذه البساطة، فلماذا لا يتم البث في طلبات التصفية؟ فهل هذا راجع إلى ثقل دور سلطة الرقابة المتمثلة في الوزارة المكلفة بالأوقاف داخل اللجنة؟ أم لترهل إداري يسم التدبير المركزي المركز لهذه السلطة؟ أم نتيجة تعارض مجمل طلبات التصفية مع استراتيجية الوزارة الوصية في تدبير الوقف وصيانته؟ وهي أسئلة تظل مطروحة في غياب أجوبة واضحة وشافية بشأنها.

هذا، ومن المعلوم أن صلاحيات الوزارة الوصية على الوقف تتسع لتشمل إمكانية المطالبة بفسخ العقود والاتفاقات التي تجانب المنهج الشرعي أو ينتج عنها ضرر قائم أو محتمل للأحباس.[19]
فمن خلال قراءة مضمون هذه الصلاحيات وكذلك استقراء الواقع الإداري لقطاع الأوقاف ومصالحه الخارجية ، يتضح جليا المركزية المركزة المفرطة لهذا القطاع، بحيث أن نظارات الأوقاف لا تعدو أن تكون سوى مكاتب للضبط ليس إلا،  مجردة من كل تفويض سواء تعلق الأمر بتفويض الإمضاء أو بتفويض الاختصاص. فلا يعقل أن يصل الحد إلى ضرورة الحصول مثلا على رأي الإدارة المركزية للأوقاف في ملف طلب بناء مسجد أوبناء جدار لمقبرة.

لعل هذا التشخيص يكشف عن وتيرتين للتدخل الإداري، فإذا كانت الدولة تسير في اتجاه تقوية سياسة عدم التركيز عبر تخويل صلاحيات للبنيات الإدارية الجهوية والإقليمية الممثلة للوزارات سيما منها تلك الممنوحة للولاة والعمال على وجه الخصوص، فإن قطاع الأوقاف مازال يعتمد على أسلوب التركيز الإداري كآلية وحيدة للتدبير.

هذه الوضعية لها انعكاسات سلبية على تدبير أراضي الأحباس المعقبة مما يجعلها لا تتماشى ومتطلبات التنمية العمرانية؛ وفي ذلك مفسدة للمنفعة العامة من جهة ولمصلحة المعقب عليهم من جهة أخرى. ومن هنا تأتي ضرورة التفكير في الصيغ والسبل القمينة التي تسعف في تدبير أفضل للوقف عموما والمعقب منه على وجه التحديد[20]؛ حيث يمكن أن نقدم بعض الإقتراحات في هذا الشأن كما يلي يلي:
–    إعمال أسلوب عدم التركيز الإداري في علاقة الوزارة المكلفة بالأوقاف بمصالحها الخارجية؛ وذلك بتمكين نظار الأوقاف من صلاحيات تنسجم مع مبدإ سياسة القرب وتحسين الأداء الإداري ولم لا التفكير في تبني اللامركزية المرفقية كأسلوب لإدارة وتدبير مؤسسة الوقف؛
–    إقرار إجبارية العقود الرسمية في المعاملات العقارية تفاديا لما تخلفه العقود العرفية من مشاكل تزيد وضعية الحبس المعقب تعقيدا وتعرقل تدبيره، فضلا عن كونها تسبب كثرة المنازعات وتوغل المعاملات في اللاشرعية؛
–    تعديل الفصل 7 من الظهير الشريف المؤرخ في 19 رجب 1333 (12 غشت 1913) المنظم لمسطرة التحفيظ العقاري والذي ينص على إجبارية تحفيظ الأحباس العمومية دون المعقبة، حيث نقترح إدراجها في هذا النص؛
–    إعادة النظر في مسطرة التصفية بإبداع أدوات وطرق قانونية لتسوية وضعية التجزئات العقارية المنجزة على أملاك محبسة تحبيسا معقبا، حيث نقترح مثلا في شأن الرسم العقاري رقم 13990س السالف الذكر،أن يساهم شاغل كل بقعة من بقع التجزئة بثلث ثمن البقعة أو غيره انسجاما مع منطق الفصل الخامس من ظهير 08 أكتوبر 1977 في شأن الأحباس المعقبة والمشتركة؛
–    توسيع دائرة اختصاص اللجنة الجهوية المكلفة ببعض العمليات العقارية المنصوص عليها في مرسوم 29 دجنبر 2004 لتشمل البث في ملفات طلبات تصفية الأحباس المعقبة مع إعادة النظر في تشكلتها بما يستجيب لخصوصيات هذا النوع من العقارات؛
–    إخضاع الأحباس المعقبة لإمكانية نظام الشراكة لإنجاز مشاريع مشتركة تعود بالنفع على كل الأطراف وتتماشى مع متطلبات التنمية العمرانية على غرار أراضي الجماعات السلالية؛
–    تحديد أجال للبث في طلبات ملفات التصفية وإعمال مبدأ الموافقة الضمنية بفوات الآجال؛
–    اعتبار المصادقة على تصاميم التعمير بمثابة قرار تصفية الحبس المعقب الذي تشمله وثيقة التعمير تمكينا لذوي الحقوق من تملك حصصهم وتيسيرا لتنفيذ متطلبات التعمير، مع العلم أن الحصة التي تؤول بموجب القانون لقطاع الأوقاف يمكن تعبئتها في الاستثمار العقاري الذي من شأنه المساهمة في تقوية مؤسسة الوقف؛[21]
–       حث العلماء على الإجتهاد في مسألة الوقف واستنباط احكام فقهية تجيب على الإشكالات المستجدة المطروحة.

لعل المشاكل التي تطرحها العقارات المحبسة والمعقبة منها على الخصوص في ارتباطها بالتعمير تستدعي إيجاد مقاربة واضحة طالما أن سياسة التعمير تستهدف وضع إطار مناسب للاستقرار البشري ولاحتواء التوسع العمراني؛ إذ لا يمكن تطوير آليات التخطيط والتدبير العمرانيين دون التحكم في الأرض ورفع العوائق التي تحول دون تطويعها لخدمة غايات التعمير. ولعل بلوغ ذلك يقتضي تجنب الاستعمالات المنافية لوثائق التعمير التي تنتج عن الطبيعة التقليدية لنظام الملكية من جهة وغياب خطة واضحة لتطوير النظام العقاري من جهة أخرى. وتجسد ظاهرة السكن غير اللائق الترجمة الحقيقية للتناقضات و الإختلالات المجالية التي تكتسح جل المدن المغربية وتجعل السلطات العمومية عاجزة عن إيجاد حلول ناجعة لها. [22]
التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

التدخل العمومي في ميدان التعمير بالمغرب

_________________________________________________
[1] سنقف على علاقة هذين النظامين بالتعمير عموما والتدبير العمراني على وجه الخصوص وآثارهما على ذلك في مثن الفصل الثاني من هذا القسم.
[2] محمد بن أحمد بونبات: الإكراهات في المجال العقاري والتخطيط العمراني: اليوم التشاوري والدراسي في شأن إعداد مدونة التعمير المنظم من طرف الوكالة الحضرية لسطات بشراكة مع جامعة الحسن الأول يوم الأربعاء 19 أبريل 2006 بكلية الحقوق بسطات، ص:2.
[3] عبد الرحمان البكريوي: التخطيط العمراني وإشكالية تنفيذ وثائق التعمير. أشغال اليوم الدراسي والتشاوري في شأن مدونة التعمير، مرجع سابق، ص1.
[4] Mauret (Elie) : pour un équilibre des villes et des compagnes. Dunod, Paris, 1974, p :24.
[5] للمزيد من التفصيل في هذا الصدد، أنظر: عبد الواحد الإدريسي وأحمد مالكي : العقار غير المحفظ وآثاره على تنفيذ وثائق التعمير. منشورات مركز الدراسات القانونية المدنية والعقارية بكلية الحقوق بمراكش، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2004 ص: 77.
[6] مولاي عبد السلام شيكري: صلابة الأنظمة العقارية الخاصة وتأثيرها على مسار التنمية العمرانية. منشورات مركز الدراسات القانونية المدنية والعقارية بكلية الحقوق بمراكش، المطبعة الوطنية مراكش، 2003، ص:226.
[7] مولاي عبد السلام شيكري : مرجع سابق، ص: 225.
[8] كتاب الوزير المكلف بإعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة إلى السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عدد 890/7220 بتاريخ 09 يونيو 2001 في موضوع المشاكل العقارية وتأثيرها على تنفيذ وثائق التخطيط الحضري.
[9] محمد الوكاري: العقار بين الازدواجية وتعدد الأنظمة ومتطلبات التنمية الحضرية، منشورات مركز الدراسات القانونية المدنية والعقارية بكلية الحقوق بمراكش، مطبعة الوطنية، الطبعة الأولى، مراكش، 2003 ص 249.
[10] عبد الرحمان  البكريوي: التخطيط العمراني وإشكالية تنفيذ وثائق التعمير. مرجع سابق، ص 8.
[11] التمسماني عماد: التعمير والمشكل العقاري. بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس- أكدال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، الموسم الجامعي: 2002-2003، ص:96.
[12] الملاحظ أن التخطيط العمراني بالمغرب غالبا ما يجعل التفكير في المعطى العقاري لاحقا عن إعداد وثائق التعمير، الشيء الذي يجعل العقار يلعب دور المعرقل بدل المحفز.
[13] البولماني سعيد: سياسة التدخل العمومي في مجال السكن غير اللائق: دراسة حالة مدينة سطات. رسالة دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام، جامعة الحسن الثاني، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، الدار البيضاء،الموسم الجامعي:2002-2003.
[14] من هذه الأدلة ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم.
[15] بالرجوع إلى المناطق التي تشملها المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية ، يلاحظ أن رصيد الدولة في مجال الأحباس العمومية على سبيل المثال يقدر بحوالي 6156 هكتارا.
[16] يتعلق الأمر بتصميم تهيئة الشريط الساحلي لسطات المصادق عليه بتاريخ 25 يناير 2001.
[17] كتاب نظارة الأوقاف بسطات عدد 857 بتاريخ 17 ماي 2000 في موضوع إحالة ملف التصفية على وازاة الأوقاف.
[18] يتعلق الأمر بالمرسوم رقم 150-79-2 بتاريخ 20 من جمادى الأولى 1399 (18 أبريل 1979) المحدد لكيفية تشكيل اللجنة المكلفة بتصفية الأوقاف
المعقبة والمشتركة ومسطرة عملها.
[19] الفصل 3 من ظهير ربيع الأول 1336 (03 يناير 1918) متعلق بضبط مراقبة الأحباس المعقبة.
[20] أحمد مالكي وعبد الواحد الإدريسي : الأملاك المعقبة بين متطلبات التعمير والتدبير الإداري، إعمال الندوة الوطنية التي نظمها مركز الدراسات القانونية المدنية والعقارية بكلية الحقوق بمراكش يومي 10 و11 فبراير 2006، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2006، ص: 99 و100.
[21] في هذا الصدد نؤيد ما ذهب إليه واضعو مشروع مدونة التعمير في الفقرة الأخيرة من مادتها السابعة والثلاثين (37) من كون الأراضي الخاضعة للأنظمة القانونية الخاصة، كما هو الشأن بالنسبة لأراضي الجموع أو الأراضي الفلاحية ؛لا تخضع للقوانين المنظمة لها التي تتعارض مع التعمير. فرغم أن الفقرة المذكورة لم تشر إلى أراضي الأحباس إلا أن صيغتها جاءت على سبيل المثال وليس الحصر، الأمر الذي يمكن معه إدراج أراضي الأحباس كذلك باعتبارها من الأنظمة القانونية الخاصة، حيث يشكل هذا الاقتراح مفتاحا لتعبئة عدة عقارات كانت تعبئتها مستعصية بسبب نظامها القانوني.
[22] أحمد مالكي وعبد الواحد الإدريسي: الأملاك المعقبة بين متطلبات التعمير والتدبير الإداري. مرجع سابق، ص:100.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.