المقاربة السوسيولوجية – موقف Durkheim من التربية

المقاربة السوسيولوجية – موقف Durkheim من التربية
2- المقاربة السوسيولوجية : 
لقد أدى تطور سوسيولوجيا التربية والثقافة إلى بروز عدة اتجاهات نظرية ساهمت في إغناء وتنويع المقاربة السوسيولوجية لظاهرة التربية في المجتمع الحديث، وفي بحثنا هذا سنحاول الوقوف عند أول اتجاه نظري ضمن هذه المقاربة، وهو الاتجاه الإصلاحي الإنساني لعالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم”، باعتباره  أول من وضع اللبنات الأولى لسوسيولوجية التربية، ومن أجل تبيان ذلك، سنعرض موقفه من التربية، ثم دور الدولة في الإشراف عليها.

2-1 موقف دوركايم من التربية :
يعرف دوركايم “التربية ” بأنها عبارة عن “وظيفة اجتماعية بالذات”  وأنها ” الفعل الذي يمارسه جيل الراشدين على جيل أولئك الذين لم ينضجوا بعد للحياة الاجتماعية، والغرض منها أن تثير وتنمي لدى الطفل عددا معينا من الحالات الجسدية والعقلية والأخلاقية يتطلبها منه المجتمع السياسي بمجموعه، والبيئة الخاصة التي أعد لها خصيصا”. ويتابع قوله “ينتج من التعريف السابق أن التربية عبارة عن تأهيل أو تنشئة اجتماعية Socialisation منهجية للجيل الفتي”.

يتبين إذن من خلال هذا التحديد للتربية، أن هذه الأخيرة عبارة عن عملية تنشئة منظمة تجعل من كل الأفراد كائنات فردية ومجتمعية في نفس الوقت، بمعنى تزودهم بما يهم حاجاتهم الشخصية من استعدادات وحوافز لتحقيق كياناتهم الفردية من جهة أولى، ومن جهة ثانية تزودهم بمختلف الأفكار والإحساسات والقواعد التي تعبر عن ثقافة المجموعات الاجتماعية Groupe sociale وتساهم هذه الأدوات “التجهيزية ” في تشكل الكائن الاجتماعي.

ويعتقد إميل دوركايم بأن غرس المظاهر الجماعية في الفرد بواسطة التربية هو ما يحدد هدف التربية، ومهمة التربية في نظره تكمن في أن ينتقل الفرد من وضع أناني غير اجتماعي إلى الوضع اجتماعي، أي أنها تخلق فيه روحا جديدة تجعله قادرا على تحمل حياة الجماعة، فالتربية تجعل الإنسان ينتقل من وضع يكاد يكون مشابها لوضع الحيوان، إلى وضع رفيع المستوى يتحكم فيه العقل ويؤهل الشخص إلى أن يلعب دورا إيجابيا في تطور المجتمع بصفة عامة. وبفضل تراكم معارف أجيال الماضي، أصبحت الثقافة العلمية على سبيل المثال من الضروريات والأولويات ولم تعد فقط من الكماليات بالنسبة للإنسان والمجتمع.

Durkheim لقد حاول دوركايم أن يبني مشروعه السوسيولوجي – التربوي بدءا من نقده لمختلف المفاهيم التحديدات التي اتخذتها التربية عند العديد من الفلاسفة والمفكرين، أمثال ج.ج روسو ، وكانط وهيجل… وغيرهم. تلك التحديدات التي أضفت على التربية صبغة مثالية كليانية تجاوزت بها حدود الزمان والمكان دون ربطها بسياقات سوسيوتاريخية محددة. وبالرغم من أن بعض الفلاسفة والمفكرين والمربين بدءا من تدشين عصر الأنوار حتى عهد دوركايم، قد تنبهوا إلى الوظيفة الاجتماعية للتربية، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى تصور سوسيولوجي متكامل للظاهرة التربوية، بل ظلت تصورات هؤلاء مؤطرة ضمن توجهاتهم الفلسفية والفكرية العامة والتي شكلت في الواقع المقدمات الفكرية للمشروع السوسيولوجي. ووعيا من دوركايم بهذا الإشكال حاول في مقابل ذلك تحديد التربية كفعل اجتماعي يتم ويمارس في مجتمع محدد وفي لحظة تاريخية معطاة، ووفق الأهداف العامة التي يضعها كل مجتمع لنفسه كمشاريع يضع على عاتقه مهمة تحقيقها.

هكذا يمكن القول إن دوركايم- أول عالم اجتماعي فرنسي – تنبه بحس سوسيولوجيا نقدي كبير، إلى طبيعة تلك العلاقة النوعية الرابطة بين التربية والنظام الاجتماعي، ومن تم وسم الظاهرة التربوية بمثل ما وصف به الظاهرة السوسيولوجية عموما، واعتبرها واقعة اجتماعية مستقلة عن وعي الأفراد، وبالتالي قابلة للدراسة العلمية الموضوعية، بل يمكن القول إن المشروع السوسيولوجي الدوركايمي في عمقه مشروع تربوي.

“إذا كان دوركايم يطمح إلى بناء تقعيد عقلاني للعلاقات والممارسات والأفعال الاجتماعية، و إلى  تأسيس أخلاق علمانية بعيدة عن كل تأثير مثيولوجي يبدو أنه كان وما يزال مهيمنا على التصورات والممارسات الأخلاقية للناس، فإنه قد أدرك أن التربية هي أساس هذه الأخلاق الاجتماعية، ذلك أنه بفضل ما يمارس على الفرد في المجتمع من تطبيع ثقافي وتنشئة اجتماعية يكتسب عاداته وأخلاقه وثقافته الاجتماعية. إذن فالتربية الأخلاقية تصبح في هذا التصور دعامة روحية للبناء الاجتماعي”.

ورغم أن دوركايم كان يبحث بجدية عن بناء تصور سوسيولوجي عملي بديل للظاهرة التربوية ينأى بها عن التصورات الفلسفية المثالية لمن سبقه من المفكرين…، فقد ظل هو نفسه وإلى حد ما مرتبطا في مشروعه بإطار قيمي معياري أخلاقي، حتى وإن كانت الأخلاق التي نادى بها كما يقول حنفي عوض “موصوفة في خطابه بالعلمانية والعقلانية وموقوفة في نشرها و ترويجها على تحقيق  مدرسة علمانية لا دينية لها مبادئها التي لا يبررها سوى العقل الإنساني وحده” . إلا أن ذلك لا ينزع عن دوركايم فضل السبق التاريخي في تحليله للوقائع التربوية ضمن مشروعه النظري السوسيولوجي العام .
الفصل الأول : البعد المعجمي لمفهوم التربية
التربية بين الفلسفة والسوسيولوجيا

 

منزلة المعجم في درس الفلسفة

___________________________________
–  Emile Durkheim –Education et sociologie ; ed P.U.f col le sociologue , paris 1973 –p :60
–  Emile Durkheim ,op cit , p 49
-ibid – p 49.
– مصطفى محسن،الاتجاهات النظرية في سوسيولوجية التربية ،مجلة الدراسات النفسية، مكتبة نهضة الشرق جامعة القاهرة،1984 ص  47.
– السيد حنفي عوض، علم الاجتماع التربوي ،مدخل للاتجاهات والمجالات ، مكتبة نهضة الشرق ،جامعة القاهرة ،  1964 ص  15 – 17، نقلا عن مجلة مصطفى محسن السابقة الدكر،ص 49

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.