مجالات ممارسة حرية العقيدة في الإسلام وحدودها

إحترم الإسلام حرية الاعتقاد، وأتاح للفرد أن يختار الدين الذي يرتضيه من غير إكراه ولا إجبار طالما كان أساس اختياره التفكير السليم وحده دون أية دوافع أخرى كتقليد وغيره. فإذا ما اختار الإنسان بحرية دينا معينا، فإن الإسلام يحمي ذلك الدين الذي اختاره وارتضاه ولا يكرهه على خلاف ما يقتضي ومن تم يتضح أن حرية الاعتقاد تمارس […]
حرية الرأي والعقيدة بين الشريعة والقانون
الباب الثاني: حرية العقيدة مفهومها، تأصيلها، وحكمها
الفصل الثاني: حكم حرية العقيدة في منظور الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
المبحث الأول: حكم حرية العقيدة من منظور الشريعة الإسلامية
المطلب الثاني: مجالات ممارسة حرية العقيدة في الإسلام
[…] من خلال ثلاث مجالات: التفكير الحر (فقرة أولى) عدم الإكراه على عقيدة معينة بأي نوع من أنواع الإكراه (فقرة ثانية) الحق في ممارسة الشعائر الدينية (فقرة ثالثة).

الفقرة الأولى: التفكير الحر
قام الإسلام بحماية هذا العنصر عن طريق دعوته الناس إلى التفكير الحر المتحرر من رقابة التقليد وذلك بالاعتماد على الأدلة والحجج والبراهين  وحدها دون انسياق لآخر، وتدبر آيات الله الكونية لكي يستنبطوا من إبداع المخلوقات ووحدانية الخالق لقوله تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ما فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله، بل هم قوم يعدلون. أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا، أإله مع الله، بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله، تعالى عما يشركون، أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} .
ومن خلال هذه الآيات فالقرآن يدعوا إلى التأمل الحر في آياته الكونية من غير تقيد إلا بالأدلة الفعلية الهادية.

الفقرة الثانية: عدم الإكراه على عقيدة معينة بأي نوع من أنواع الإكراه

لم تكتف شريعة الإسلام بتقرير حرية التفكير، ولكنها أضفت عليه حمايتها وبإلزامها احترام حق الغير في اعتقاد ما يشاء وتركه يعمل طبقا لعقيدته. فقد أعطى الإسلام كل فرد الحق في أن يدين بما يشاء وأن يعتنق من العقائد ما يريد ، وأن للإنسان أن يستقل عن قومه في شؤون العبادة. قال تعالى: {لكم دينكم ولي دين}  فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوا إلى دين الله وإلى الحق لكن قريش ارتضت لغيره بحرية العقيدة من اليهود والنصارى ولم ترض له ولأتباعه بذلك الحق . ومع ذلك لم يرغمها على دخول الإسلام قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}  وقوله:{ولو شاء ربك آمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} .
إن هذا المنهج النبوي والإسلامي عامة هو الذي ظل يتردد منذ صدر الإسلام إلى حين أواخر العهد المدني فالإسلام لم يفرض على النصراني أن يترك نصرانيته أو على اليهودي أن يترك يهوديته.

فالحكمة من رفض الإسلام منطق العنف والإكراه كوسيلة لغرس عقيدته في النفوس يرجع إلى ثلاثة أمور:
– أن العنف والإكراه سلطانه على العقيدة سريع الزوال وإن كان يعتمد على الفكرة فلن تدوم به العقيدة طويلا.
– أنه لا يصلح إلا لفرض المبادئ والأفكار المتناقضة لإعراض الناس عليها وارتيابهم فيها.
– أن الإيمان الذي يأتي عن طريق العنف والإكراه لا قيمة له ولا كرامة لصاحبه لأنه ليس نتيجة لإقناع فكري ووعي عقلي . ولا أدل من رفض الله تعالى إيمان فرعون حينما أدركه الغرق حيث قال على لسان فرعون: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}  ورد الحق سبحانه على ذلك بقوله: {الآن وقد عصيت  قبل وكنت من المفسدين} .

الفقرة الثالثة: الحق في ممارسة الشعائر الدينية
من الطبيعي أن يكفل الإسلام للمسلمين حرية ممارسة شعائرهم الدينية على اعتباره دعوة دينية فيها من الواجبات المطلوبة بشكل فردي وجماعي الكثير ولا خلاف في هذا الموضوع بالنسبة للمسلمين.
إلا أن الإسلام أبرز بشكل مميز لمخالفيه في العقيدة حقهم وحريتهم في ممارسة شعائره الدينية . ففي إمكان غير المسلمين ألارتداد عن دينهم ومذهبهم وعقيدتهم وأن يباشروا ما شاءوا من الطقوس الدينية وأن ينشؤوا المدارس والمعابد لإقامة دينهم دون حرج سواء كانوا يهودا أو نصارا بل ولهم أن يكتبوا ما يشاؤون عن عقيدتهم . وليكتمل الحق في حرية الاعتقاد بشكل حقيقي وعملي فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا في العهد الذي أعطاه لليهود في المدينة المنورة “أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”  وأقرت الشريعة الإسلامية تبعا لذلك احترام أماكن العبادة للناس جميعا دون تمييز بين الأديان وذلك استنادا لقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}  وهكذا يكفل الإسلام حرية العقيدة لغير المسلمين ويتيح لهم حرية التعبد على مقتضى ما يدينون والحاكم المسلم ملزم بأن يراعي ما أقره الإسلام في هذا الصدد، وأن يحموا غير المسلمين من أي أذى يمكن أن يتعرضوا له كما أنه ليس من حق الحاكم أن يتخذ إجراءات تؤدي إلى التضييق على غير المسلمين في إقامة شعائرهم الدينية.

المطلب الثالث: حدود ممارسة حرية العقيدة في الإسلام
إن مفهوم الإطلاقية في الحرية لا يمكن تصوره في أي مجال من مجالات القانون فبالأحرى في مجال الشريعة الإسلامية. وكنتيجة لذلك فإن حرية العقيدة لا تعني بالضرورة مزيدا من التحرر الفعلي للإنسان فأحيانا تكون الحرية الزائدة ذات مردود سلبي من الناحية الشخصية والاجتماعية وأحيانا يكون العكس. وعليه كان من الضروري وضع حدود لممارسة هذا الحق.
فالإسلام، ومن أجل حماية عقيدته وضع حدا لهذه الممارسة، والذي يتجلى في تحريمه للردة. وبالتالي فإن حرية العقيدة في الإسلام لا يمكن الحديث عنها سوى لمن لم يعتنق الإسلام أصلا. لأنه لا يسمح للمسلم الارتداد عن الإسلام إلى غيره من الديانات السماوية، أو غير السماوية سواء كان مسلما أصليا، أو أنه انضم إلى جماعة المسلمين بعد أن كان كتابيا أو مشركا.
والردة حسب بعض الفقهاء: “اسم شامل لكل رجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، فتشمل بذلك الرجوع إلى العقائد الكافرة نحو اعتناق الماركسية أو المادية الجدلية أو العلمانية أو العقائد المعروفة كالنصرانية واليهودية وكذلك تقع الردة بجحود ما ثبت قطعا في الإسلام، كما تقع بجحود تحريم ما حرم” .

فكفالة حرية العقيدة، كما أقرها الإسلام لا تعني التلاعب في المعتقدات الدينية أو اتخاذها هزؤا ولعبا أو استحداث عقائد جديدة تتناقض مع الأديان السماوية وبالأخص الدين الإسلامي، فمثل هذه التصرفات تأباها الشريعة، بل وتعاقب المسلم المرتد عن الإسلام بعقوبة القتل.
وسبب تحريم الإسلام لردة يكمن في أن اليهود قديما حاولوا الإساءة إلى الإسلام بهذا الأسلوب قال تعالى:{وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا أوجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} .
فالتسامح عن الارتداد، وذلك بإعطاء الحرية للأفراد بالتنقل في اعتقادهم لا يخرج عن معنى وحيد يتمثل في إعطاء الفرصة للآخرين بالإساءة إلى الإسلام وإهانته والاحتيال على شريعته الأمر الذي يؤدي إلى إحداث فتنة في المجتمع ما بعدها فتنة وإلى إحداث خلل في بنية الأمة التي أرادها الله عز وجل متماسكة قوية. بل إن ترك حرية الارتداد للأفراد يدل على استخفاف بهذا الدين الذي هو أقدس قيم المجتمع.
ومن هنا فقد تشدد الإسلام في معاقبة المرتد، حيث جعل عقوبته في الدنيا هي القتل وفي الآخرة العذاب الأليم. قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا “من بدل دينه فاقتلوه” .

إلا أن الملاحظ على العقوبة المقررة في الدنيا فبعض الفقه  “أن الكثير من العلماء يرون أن الحدود لا تثبت بحديث الأحاد وأن الكفر بنفسه ليس مبيحا للدم وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم”.
هذا وحرية العقيدة إن كانت لا تعني بالنسبة للمسلم حرية الارتداد، فإنها لا تعني أيضا حرية الابتداع  في الدين، وذلك لأن الأصل في المسلم أن يكون في آرائه ومعتقداته وما يقوم به من عبادات موافقا لما جاء به الله تعالى، فلا يحل له أن يتعبد بكيفية ليس لها أصل في الشريعة أو خارجة عما رسمه الشارع، فعن العرباض بن سارية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة” .
ومن هنا فواجب على الدولة في هذا المجال حفظ الأحكام التعبدية والعقائدية كما جاء بها الشرع وصيانتها من الانحرافات الفكرية والعملية باستخدام ما يتوفر لديها من وسائل كالتعليم والإرشاد في المدارس والمعاهد وتعيين الأئمة والوعاظ في المساجد وإرسال الدعاة والعلماء، ونشر الكتب الشرعية، وبث المعارف الإسلامية باستخدام كافة وسائل الإعلام” .
إذا كان هذا فيما يخص حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، فا هو حكمها في القوانين الوضعية؟ هذا ما سنحاول دراسته في المبحث الموالي.
___________________
– الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي –دراسة مقارنة- مكتبة وهبة لفتحي عبد الكريم ط II  1984 ص 333.
– سورة النمل الآيات 62-66.
– حقوق الإنسان وحرياته الأساسية مرجع سابق ص161.
– سورة الكافرون الآية 6.
– سلطة الدولة في تنظيم الحقوق دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي – عمر محمد إبراهيم زائد- ط الأولى  1999 ص135.
– جزء من الآية 256 سورة البقرة.
– سورة يونس الآية 99.
– حقوق الإنسان وحرياته الأساسية مرجع سابق ص170 “بتصرف”.
– سورة يونس جزء من الآية 90.
– سورة يونس الآية 91.
– مفاهيم الحق والحرية مرجع سابق ص184.
– الدولة والسلطة في الإسلام مرجع سابق ص585.
– ابن هشام السيرة النبوية الجزء الثاني ص149.
– سورة الحج الآية 22.
– حقوق الإنسان وحرياته الأساسية م.س. ص163.
– سورة آل عمران الآيات (72-74).
– سورة البقرة جزء من الآية 217.
– الترميذي. السنن ج 4 ص12 كتاب (الديات)، باب (10) حديث رقم (1402).
– الترميذي السنن ج 4 ص48 كتاب (الحدود) باب (ما جاء في المرتد) حديث رقم 2458.
– محمود شلتوت (الإسلام عقيدة وشريعة) ص281- ط التاسعة 1997.
– حقوق الإنسان وحرياته الأساسية م.س.ص.166.
– ابن ماجة: السنن ج 1 ص16. المقدمة. باب (6) حديث رقم (42).
– الدكتور سامي الوكيل، والدكتور محمد مفتي: النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية ص94-101 بتصرف.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.