حرية العقيدة في القانوني الوضعي: مجالات الممارسة والحدود

إن حق الإنسان في أن يعتنق الدين الذي يشاء وفي أن يمارس شعائره التعبدية قد تكرس في الاتفاقيات والمواثيق الدولية وكذا في معظم القوانين والدساتير العصرية ولهذا فقد حاولت هذه الدساتير وضع المجالات التي يمكن للأشخاص أن يمارسوا فيها […]
حرية الرأي والعقيدة بين الشريعة والقانون
الباب الثاني: حرية العقيدة مفهومها، تأصيلها، وحكمها
الفصل الثاني: حكم حرية العقيدة في منظور الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
المبحث الثاني: حكم حرية العقيدة من منظور القوانين الوضعية
[…] حريتهم (مطلب أول) لكنها في مقابل ذلك وضعت حدودا لا يمكن لهم تجاوزها (مطلب ثان).

المطلب الأول: مجالات ممارسة حرية العقيدة في القوانين الوضعية
نصت معظم المواثيق الدولية والقوانين في دساتيرها الوطنية على المجالات التي يمكن للأشخاص أن يمارسوا فيها حريتهم. فنجد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 18 منه نص على “أن لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حدة”.

والاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية تناولت مجالات هذه الحرية بتفصيل، فقد جاء في المادة 18 ما يلي:
” – لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حدة.
– لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شانه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره”.

ومن الدساتير التي تنص على حرية العقيدة نجد:
دستور المملكة الأردنية الهاشمية الذي نصت المادة 14 من الدستور على ما يلي: “تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في المملكة…”
الدستور الألماني الذي نص على “أن حرية الاعتقاد وكذلك حرية اعتناق مذهب في الدين أو أحد المذاهب العالمية مصونة ولا يجوز المساس بها وكذلك حرية القيام بالشعائر الدينية مكفولة” .
والدستور الإيطالي الذي نص على أن “لجميع المواطنين الإيطاليين حق ممارسة عقيدتهم الدينية والإعلان عنها، والدعوة إليها وإقامة شعائرها بصورة علنية أو غير علنية” .
في حين نجد أن الدستور المغربي ينص في المادة الخامسة منه  “تحترم سائر الأديان المعروفة بلا فرق ويحق لأصحابها أن يقيموا شعائر ومعالم معتقداتهم حسب عوائدهم بكل حرية”.

فجوهر حرية العقيدة في التشريعات الوضعية حسب هذه النصوص تتمثل في أن الشخص حر في:
– أن يعتنق الدين الذي يرغبه أو ينخرط تحت لوائه  أي سواء كان دين تلك الدولة أم دين آخر.
– ممارسة شعائر هذا الدين بما في ذلك من صلاة أو غير ذلك مثلا يمكن للمغاربة المتواجدين في الخارج أن يقيموا شعيرة الصلاة أو الصيام لأنها تدخل في نطاق ما يعتقدونه ويؤمنون به وكذلك الأمر بالنسبة للأجانب الموجودين في المغرب حيث يحق لهم الذهاب إلى الكنائس دون أي عائق يحول بينهم وبين ممارسة هذه الشعيرة.
– إقامة الشعائر سواء بصورة علنية أو غير علنية: أي سواء بالإفصاح عنها للآخرين وأمام الجميع أو إقامتها بنوع من التستر.
– الانضمام إلى أحد الأديان المعروضة على البشر دون أي إجبار أو إكراه في فرض دين معين أو الاشتراك في طقوس مختلفة عن الدين الذي يريد.

إذا كانت هذه التشريعات قد عملت على وضع مجالات بموجبها تتم ممارسة حرية العقيدة فإنها بالمقابل قامت بوضع حدود لممارسة هذه الحرية. فكيف ذلك؟

المطلب الثاني: حدود ممارسة حرية العقيدة في القوانين الوضعية
برجوعنا لمختلف الدساتير التي تنظم مجالات ممارسة حرية العقيدة ضمن نصوصها نجدها تنص في مقابل ذلك على حدود ممارستها فمثلا المادة 18 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية نجدها تنص في فقرتها الثالثة على مايلي:
“- لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهاره دينه أو معتقده إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية”

وكذلك الشأن بخصوص كل من هذه الدساتير:
– الدستور الإيطالي الذي نص في آخر المادة 19 منه على “بشرط أن لا يخل شيء من ذلك مع الآداب العامة المرعية”.
– ودستور المملكة الأردنية الهاشمية في نص المادة 14 “ما لم تكن مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب”.
– والدستور المغربي في المادة الخامسة منه “ضمن دائرة مراعاة الآداب العمومية”.
إذن فالملاحظ من خلال دساتير هذه الدول المختلفة أنها أعطت الدولة حق التدخل بوسيلة القانون في حرية العقيدة للمحافظة على النظام العام في الدولة. أي أنها اعتبرت فكرة النظام العام الآداب العامة من الحدود التي تقع على حرية العقيدة. إذن فما المقصود بكل من فكرة النظام العام والآداب العامة؟ وما هي مميزاتها وخصائصها؟
ومن هنا سنحاول تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين: بحيث سنعالج في الأولى فكرة النظام العام على أن نتطرق في الثانية لفكرة الآداب العامة.

الفقرة الأولى: فكرة النظام العام:
سنتطرق في الأول إلى المقصود بها في (أولا) على ان نتطرق لخصائصها (ثالثا) ثم لمضمونها (ثانيا).
أولا: المقصود بفكرة النظام العام
لم يهتد الفقه إلى إيجاد تعريف دقيق ومحدد لفكرة النظام العام l’ordre public لما يكتنفها من غموض مما يجعلها مستعصية على الضبط والتحديد لذلك قيل بحق “إن النظام العام يستمد عظمته من ذلك الغموض الذي يحيط به فمن مظاهر سموه أنه ظل مستعصيا على كل الجهود التي بذلها الفقهاء لتعريفه” .
وعرفه بعض الفقه “بأنه مجموعة القواعد القانونية التي يقصد بها تحقيق مصلحة الأشخاص، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم…” .
فمن هنا يمكن القول إجمالا أن النظام العام قوامه المصلحة العامة سواء كانت هذه المصلحة سياسية أم اجتماعية أم أخلاقية، فهو إذن يتمثل في مجموعة القواعد الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع.
فهذه المصالح المتعلقة بأسس المجتمع العليا هي التي لا يمكن للأفراد الاتفاق على ما يخالفها –لأنه لو تم ذلك لتعرض صرح المجتمع للانهيار- أي ما يصطلح عليه بمفهوم القواعد الآمرة. لأن سلطان إرادة الأفراد منعدم إزاء هذه القواعد، ولا يملك المخاطبون بأحكامها إلا الانصياع والخضوع الكامل لها بما تتضمنه من أوامر أو نواهي، وقوتها الإلزامية هاته لا تنبع فقط من كونها قواعد قانونية من خصائصها الإلزام، وإنما بالأساس لارتباطها الوثيق كما سبق الذكر بالمصالح الأساسية للمجتمع .

ثانيا: مضمون فكرة النظام العام.
إن فكرة النظام العام فكرة مستعصية مما يصعب معه إيجاد مضمون محدد لها، ولكن مع ذلك تم وضع معايير بموجبها تتحدد هذه الفكرة وهذه المعايير يمكن تلخيصها في:
– مبادئ العدالة الدولية أو القانون الطبيعي.
– المبادئ الأساسية التي ورد التصريح بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
– مبادئ الشريعة الإسلامية.

ثالثا: خصائص فكرة النظام العام
تتسم فكرة النظام العام بخاصيتين متميزتين هما المرونة والنسبية، فخاصية المرونة تفيد: أن النظام العام يتغير من زمان إلى زمان  أي أنه ما كان يعتبر من النظام العام في وقت من الأوقات داخل دولة معينة قد لا يعتبر في وقت لاحق داخل نفس الدولة.
أما خاصية النسبية. فتعني أن النظام العام يختلف مضمونه من دولة إلى دولة .
فما قد يعتبر من النظام العام في إحدى الدول لا يعتبر نظاما عاما في الدولة الأخرى.

الفقرة الثانية: فكرة الآداب العامة

يقصد بعض الفقه بفكرة الآداب العامة أنها مجموعة القواعد الأخلاقية التي يحرص المجتمع على التمسك بالحد الأدنى منها لضمان استمراريته في زمان ومكان معينيين ولذلك لا يباح الخروج عليها عن طريق الاتفاقات الخاصة حفاظا على كيان الجماعة الأخلاقي من التصدع” .
فالأداب العامة تمثل الجانب الخلقي للنظام العام وهو ما يجعلها قريبة من النظام العام إلى حد يتم دمجها معه.
وفكرة الأداب العامة لها نفس الخصائص التي تميز بها النظام العامة من خاصيتي المرونة والنسبية.
وخلاصة القول أنه كلما كان من شان ممارسة حرية العقيدة إخلال بالنظام العام أو الأداب العامة فإن الدولة تتدخل من أجل منع هذه الممارسة ولو أنها تدخل في نطاق حرية العقيدة لأن غاية المصلحة العامة تقوم فوق أي اعتبار.

خاتمـــة
سبق القول أن حرية الرأي والعقيدة، مقررة بمقتضى القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، حيث أوجدت هذه القوانين مجموعة من النصوص المنظمة لهما. وذلك من خلال إقرارهما –القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية- للمجالات والحدود المنظمة لكل من هاتين الحريتين.
فإسنادا لما سبق نستخلص أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى تنظيم كل من حرية الرأي والعقيدة. من خلال ذكر مجالاتهما والحدود الواردة عليهما، بحيث تختلف تلك الضمانات من حيث مستوى النصوص الضامنة ففي الشريعة الإسلامية فهاتين الحريتين مكفولتين بأصول ثابتة يجب على المسلمين اتباعها واحترام المبادئ الناجمة عنهما بينما في القوانين الوضعية فهي مجرد قرارات برلمانية أو مواثيق دولية تتعرض دائما للتغيير. ومن هنا يمكننا التساؤل حول مدى القيمة المعرفية لهؤلاء الأشخاص الذين وضعوا هذه الضمانات؟
وبالتالي فأساس الإلزام في الشريعة الإسلامية هو وجوب طاعة الله تعالى وأن الجزاء فيها هو جزاء دنيوي إضافة إلى كونه جزءا أخروي في حين أن أساس الإلزام في القوانين الوضعية هو وجوب الامتثال إلى سلطة الدولة التي تسن هذه القوانين وبالتالي فالجزاء يظل جزاء دنيويا بامتياز تتولى هذه السلطة تطبيقه، ولما كان من شأن إعطاء الحرية دلالات زائدة عن حدها، أن يسفر عن مردود سلبي إن على المستوى الشخصي والاجتماعي، والمس بما هو مقدس لدى الإنسان الآخر. ففي الواقع نجد تطاول البعض بذريعة ممارسة حرية الرأي والعقيدة للمس بحرية الآخر إن على المستوى الدولي أو الوطني.  كحادثة  الدنمارك لما التطاول على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم برسومات مهينة له.
وفي الأخير فإننا نرى أن حوارا منصفا وجادا بين الشريعة الإسلامية من جهة والقوانين الوضعية من جهة أخرى سيعمل على إخراج بني البشر من عواقب الاستخفاف بالقيم الذي أخذ يستشري في جسم البشرية اليوم ويدمر صروح الحضارة التي بناها الإنسان على مر العصور.
ونأمل أن يكون بحثنا المتواضع هذا فيه استفادة للأجيال القادمة خصوصا، وأن طبيعة الموضوع تتميز بشح المراجع على مستوى المقارنة، كما نأمل أن تكون محاولات فقهية جادة تحاول دراسته دراسة مقارنة للم شتات المعلومات المتناثرة بين الكتب.
______________________
– المادة 4 من القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا.
– المادة 19 من القانون الإيطالي الصادر سنة 1947.
– الصادر بسنة 1996.
– مفاهيم الحق والحرية م.س. ص182.
– نور الدين العمراني، ود. المعزوز البكاي مدخل لدراسة القانون الخاص 2006/2007 ص69. نقلا عن الزمالك عبد الكريم: إشكالية صفة النيابة العامة للطعن في القضايا المدنية التي لها صلة بالنظام العام مجلة المعيار، نقابة المحامون بفاس العدد 15/1989 ص8.
– عبد الرزاق السنهوري الوسيط في شرح القانون المدني الجزء الأول نظرية الالتزام، دار النشر للجامعات المصرية القاهرة ط 1952 ص399.
– مدخل لدراسة القانون الخاص م.س. ص62.
– آمنة سميع محاضرات في قواعد الإسناد ط 2010-2009 ص50 و51 بتصرف.
– آمنة سميع،م.س -ص49.
– مدخل لدراسة القانون الخاص.م.س.ص.70.
– مدخل لدراسة القانون الخاص. م.س. ص70.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.