تبني الغزالي للتوصف, حقيقة التجربة الصوفية وأنواع التصوف

التجربة الصوفية عند الإمام أبي حامد محمد الغزالي
الفصل الثاني
المحور الأولى : حقيقة التجربة الصوفية
من الضروري في حديثنا عن حقيقة التجربة الصوفية ان نرجع إلى أقوال مجموعة من العلماء حول هذا الموضوع والرجوع إلى سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال :” لكل شيء مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء ، الذين هم جلساء الله تعالى يوم القيامة ” (1).
نعلم أن الفقر جوهر التجربة الصوفية وأساسها وبه قوامها وعندما ننطلق من فكر القدماء من مثل رويم الذي يقول ” التصوف مبني على خصال التمسك بالفقر والاقتصار والتحقق بالبذل والإيثار وترك التعرف والاختيار   (2)
من خلال هذه القولة نلاحظ بأن من ركائز المتصوفة الفقر واما أبا عبد الرحمان الرازي فيقول :” سمعت مظفرا ( يقول) القرميسني يقول : الفقير الذي لا يكون له ذلك الله حاجة قال : وسمعته يقول سألت أبا بكر المصري عن الفقير فقال . الذي لا يملك ولا يملك  .. (3)
وهذا يعني أنه ليس لديه حاجة أن يكون مشغولا بالعوامل والوظائف التي تساعده على عبوديته ويكون له ثقة تامة بالله سبحانه وتعالى.
ويعتبر التصوف اسم يلم بكل عبارات الفقر وهو جامعة ومادام أن التصوف ينبني كذلك على الزهد فإنه جامع لمعاينة إلى أنه ضروري من بعض الأوصاف وكذلك الإضافات التي بدونها لا يمكن أن تتحدث عن إنسان صوفي وإن كان زاهدا أو فقيرا .
وهناك قوله لأبو حفص تفند ما نحن بصدده حيث قال ” التصوف كله أداب   (4)
وهناك مقولة أخرى ” حسب أداب الظاهر وعنوان حسن أداب الباطن ”  (5). وذلك لكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ” لو خشع قلبه لخشت جوارحه ” (6)

من خلال ما ذكرناه يختلط على البعض بين مفهومين أساسيين هما الفقر والصوفية وأنا سوف اعمل على إيضاح ذلك بكون الفقير يكون متمسكا بفقرة إلا أنه تكون له بعد نظر لأنه ينتظر ما سوف يعوضه ربه عنه وكذلك لأنه كلما تذكر الخير والكرم الذي ينتظره عند ربه إلى ويمسك نفسه ويرجع يقينه إلى كون الدنيا زائلة وفانية وبهذا يعانق الفقر ويتمسك به ويصبح خائف عن زوال الفقر ويخسر الفضيلة والعوض وهذا كله يعتبر عين الاعتدال في طريق التصوف وهناك قولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ” يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ” ونصف يوم في الحديث تعالى خمسة مئة سنة .
أما الصوفي فهو يترك الأشياء للأغراض التي تكون موعودة بل يكون هدفه الأحوال الموجودة فالصوفي يقوم الأشياء في إرادة نفسه وإنما بإرادة الله سبحانه وتعالى.
وهنا يتضح الفرق بين الفقر والتصوف وعلمنا فيما سبق أن التصوف  أساسه الفقر وبه يكون قوامه وأن للوصول إلى مرتبة الصوفي عليك إتباع طريق الفقر لا على معنى أنه يلزم من وجود التصوف وجود الفقر .
قال عمر بن عثمان المكي :” التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولا بما هو أولى في الوقت  (7) وقال سهل بن عبدالله :” الصوفي من صفا من الكذر ومتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر  (8) وقال الجنيد ” الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح ”  (9) قال أيضا ” هو كالأرض يطؤها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شيئ وكالمطر يسقي كل شيء ” . (10)
وتعتبر أقوال المشايخ في حقيقة التصور كثيرة قد تزيد على ألف قولة إلى أن كل هذه الألفاظ وإن تميزت بالاختلاف فإنها من ناحية المعنى متقاربة بهذا يمكننا القول بأن الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية بحيث أنه يصفي الأوقات عن شواب الأكدار وهذا طبقا بتصفية القلب إلى مولاه .
فيداوم الافتقار الافتقار إلى الله ينفي من الكدر وكلما دعته نفسه إليها إلى ويعمل بوجب بصيرته إلى التخلي عنها ومحاربتها والهروب منها في اتجاه رب العباد وبهذا يصبح قائم بربه على قلبه وكذلك قائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى ” كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ”  (11)  تعتبر هذه القوامية لله ضد كل شواب النفس هو ما يعادل التحقق بالتصوف .

المحور الثاني : أنواع التصوف
عندما نتحدث عن أبي حامد الغزالي من خلال كتابه الشهير والقيم ” المنقد من الضلالة ” فسنجده يتحدث عن المجال الصوفي بصفة عامة إلى أنه قسم التصوف في هذا الكتاب إلى أربعة أنواع اولها
التصوف العيساوي:  والذي يعتبره الغزالي بمثابة تصوف الرياضات وذلك لانه كان يتأسس على التقليل من الأكل تدريجيا حتى يصل الأمر إلى الفطر على ثمرة في اليوم الليلة أو الفطر كل أربعين يوما على ثمرة كما وصل إليه سهل بن عبدالله وهذا يوضح الدرجة القصوى التي كان يعتمدها الصوفي العيساوي في الزهد، ويعتبر هذا النوع من التصوف هو الذي وصل بالغزالي إلى مستوى الذروة أما التصوف الثاني فهو:
التصوف الفكري:  هذا النوع من التصوف ابتدأ في عصر الشادلي الذي كان يعتبر بمثابة إمام التصوف القلبي ، وذلك طبعا بواسطة كثرة الذكر والاستغراق فيه إلى أنه كان يعتمد على جانب آخر هو عدم حرمان النفس من خلالها إلى أن هذا النوع من التصوف نبع فيه العديد من الأئمة الكبار، أم التصوف الثالث فهو :
التصوف التقليدي : والذي يعتبر بمثابة محاكاة إما لتصوف العيساوي أو التصوف الفكري لكنه مشروط بعدم القدرة على استفراغ الجهد في أحدهما إلى أن هذا النوع من التصوف يتأسس على ركن مهم جدا وواحد والذي هو أن لا يشغل المريد قلبه بالشيوخ فإنهم أكبر عائق عن السير في هذا النوع من التصوف وأعظم حجاب في التلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة أما التصوف الأخير فهو  :
التصوف المحمدي : والذي يعتبر بكونه أسلم وأصلح مناهج التصوف وبأنه لا يصلح لهذا العصر سواه وذلك بعد أن كثر الإدعاء والمتمشيخون الذين لم يظهر لمناهجم إن كان لهم مناهج أثر في الأمة .

المحور الثالث: كيفية تبني الغزالي للمجال الصوفي
يقول الغزالي بأنه لما اختار طريق التصوف وعلم ان الطريقة الصوفية تتم بعمل وعمل والأصل في عملهم أن يقطع عقبات النفس والعمل على التنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة إلى أن يصل بهذه النفس إلى درجة تقطع مع كل الصفاة الخبيثة وتصبح ملك لله وفي تواصل مع ذكره سبحانه وتعالى إلى أنه عندما أراد الغزالي بتحصيل علم الصوفية بدأ بدراسة كتبهم مثل ” قوت القلوب” لأبي المكي رحمه الله وكتب الحارث المحاسبي والمنفرقات المأثورة عن الجنيد ، والشلبي وأبي يزيد البسطامي رحمهم الله . إلى أن استطاع أن يخزن رصيدا معرفيا قويا عن المجال الصوفي وتعلم كذلك طريقتهم وذلك عبر السمع والتعلم وكذلك بالذوق والسلوك .

من خلال هذه أطرق استطاع الغزالي ان يصل إلى درجة قصوى من التصوف ويلاحظ كيف ان الإمام الغزالي كانت له من الخلوة والتقشف والزهد الشيء الكثير إلى أن الكثير من علماء الأمة قرأ كتاب ” المنقد من الضلال ” وتبين لهم كيف كان الشيخ الغزالي يمارس طقوسه في التصوف والزهد إلى درجة ان التاريخ لم يثبت لنا أي شخص اجتهد في مجال التصوف مثل الإمام أبي حامد الغزالي
لكن لكي يعرف الصوفي حقيقة الزهد يجب ان يعيشه ونأخذ بمثال الطبيب في حالة المرض لا يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها إلا وهو فاقد الصحة. لهذا قلنا ان نعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسباب يجب أن تعيشه وأن يكون حالك الزهد يجب أن تعمل على عزوف النفس ومحاربة كل شهوات التي تأمر بها من مال وجاه إلى غير ذلك من الشهوات .
إلى أن الإمام الغزالي كان له إيمان قوي بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الأخير وهذا في إطار بحثه وتفتشه المستمر عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية بحيث أن الأصول الثلاثة التي ذكرتها والتي هي ( الإيمان بالله وبالنبوة وباليوم الأخير) كانت راسخت في نفس لا بدليل معين مجرد بل بواسطة تجارب وهذا دفع الغزالي إلى تكوين اليقين الذي وصل إليه وكذلك بواسطة التجارب وهذا دفع الغزالي إلى تكوين يقين قوي انه لا سبيل في الحصول على سعادة الآخرة والحصول على الجنة ونعيمها إلى بمحاربة النفس عن الهوى والشهوات وأساس هذا قطع علاقة القلب عن الدنيا، وذلك بالتجافي عن الدنيا التي تعتبر زائلة وفانية والعمل من أجل الأصح والقوي والدائم أي دار الخلود والبقاء والنعيم وهذا لا يكون طبعا إلا بالأعراض  عن الجاه والمال والهرب من الشواعل والعلائق ولا سيم وأن الشيخ الغزالي كان له حيث عالي وكذلك الجاه والشهرة .
إلى أنه بدأ له تفكير من ناحية  أخرى بأن عمره لم يبقى فيه الا القليل وعقبر أن ماله من العلم والعمل يعتبر بمثابة رياء وأنه إذا لم يفكر في الآخرة في هذه الفترة فمتى يفكر فيها ويستعد لها .

وبهذا بدأ الشيطان يأخذ به نحو الشهوات الدنيا وبهذا أصبح فكرة ما بين تجادب شهوات الدنيا ودواعي الأخيرة.إلا أن الإمام حامد الغزالي لم يعتبر كل هذا الاهتمام إلى بعد أن ألمه مرض وعجز الأطباء عن شفائه فلتجئ إلى العلي القدير وأشفاه من هذا المرض وبهذا قرر الخروج من العراق متجها إلى الشام فجلس بها ما يناهز السنتين وهنا بدأت نلاحظ صفاة التصوف عليه وذلك من مثل العزلة والرياضة والمجاهدة بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى وهذا طبعا ما كان قد حصل من علم الصوفية
وكان يعتكف في صومعة مسجد دمشق طوال اليوم ويغلق بابها عليه وبعد ذلك رحل إلى القدس بحيث يدخل في كل يوم إلى الصخرة ويغلق بابها عليه .
وبعد ذلك ذهب إلى مكة قصد الحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة
ثم عاد إلى وطنه بعد أن جذبته الهمم ودعوات الأطفال وبه أيضا استمر في خلوته وفي الابتعاد عن الخلق ومن أجل تصفية القلب للذكر إلى أن هذه الخلوة كانت تنكسر وذلك على حساب متطلبات الحياة والمعيشة إلى أنه استمر على هذا الحال لمدة عشر سنوات واستطاع في هذه المدة أن يكتشف أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها
وبهذا كله أدرك الغزالي أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى وهذا على اعتبار أن سيرتهم تعتبر من أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق بل يقول الغزالي ” لو جمع عقل العقلاء وحكمة للحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلو بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في  ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به ” .
__________________________
(1)  – الإمام أبو حامد الغزالي كتاب ” إحياء علوم الدين “الجزء الخامس الحديث خلف الجامع الأزهر ( المكتبة التجارية الكبرى ) ص 62.
(2) -نفس المرجع ص 62
(3)   -نفس المرجع  ص 62
(4)   – نفس المرجع ص 62
(5)   – نفس المرجع ص 62.
(6)  – الإمام أبو حامد الغزالي كتاب ” إحياء علوم الدين “الجزء الخامس الحديث خلف الجامع الأزهر ( المكتبة التجارية الكبرى ) ص 62.
(7) -نفس المرجع ص 63
(8)  -نفس المرجع ص 63
(9)  -نفس المرجع ص 64
(10)  -سورة المائدة الآية 9
(11)  -نفس المرجع ص 64

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.