التعدد اللغوي في رواية وليمة لأعشاب البحر

التعدد اللغوي وأثره الجمالي في وليمة لأعشاب البحر ” لحيدر حيدر”
الفصل الأول
مدخل :
إن أول شيء يواجهنا في العمل الأدبي هو لغته، وفي هذا الصدد يشير محمد برادة إلى أن ” تحقق النص الأدبي إنما يتم باللغة عبرها ”  هذه اللغة التي تتكون وتتخذ أشكالا متعددة داخل النص الأدبي عامة والروائي منه توجه خاص فتكسبه قيمته وجماليته . فالرواية ” لا يمكن أن نستحق اسمها إذا لم تكن خليطا من المحكي والنشيد ومن أشكال أخرى ” ، كما يقول باختين الذي حدد أفقا آخر لنظرية الرواية يخالف ما ذهب إليه سابقوه أمثال هيجل ولو كاتش اللذين  قاربا الرواية اعتمادا على منظور فلسفي – تاريخي غير أن مقاربة باختين للرواية من خلال اللغة لا تعني أبدا، أنه ينظر إلى تلك اللغة توصفها ضمادة مجوفة فارغة ، إذ من الصعب، كما يشير إلى ذلك محمد برادة في مقدمته لكتاب باختين ” الخطاب الروائي ” . القول بأن باختين بغضه الطرف عن الأبعاد التاريخية والمجتمعية التي بلورت الرواية في القرن 19 والقرن 20، وجعلت منها شكلا لتعدد الأصوات واللغات وتنوع الملفوظات المتحاورة ، والمواقف الإيديولوجية المتصارعة، ذلك أن باختين يتخد من اللغة حجر الزاوية عندما يقرأ تاريخها ويعيد تأويلها ومن ثم  فاللغة عند باختين ليست ذلك النسق، والكائن الثابت والمجوف، وإنما هي اللغة المحملة بالقصيدة والوعي، اللغة التي تخرج عن المعجم لتحتضن المعاني الروايات ووجهات النظر الخاصة بالمتكلمين داخل الرواية ولذلك فالتعدد اللغوي، عند باختين لا يعني حضور مجموعة من اللغات ( فرنسية ، عربية ، إنجليزية … ) داخل عمل روائي واحد حينا إلى حين فقط بل هو تعدد مبني على أساس وجود منظور سوسيو لساني ملموس يتفرد داخل اللغة ويقتضي الكشف عن التعدد اللغوي وعيا عميقا باللغات المتفاعلة داخل اللغة الواحدة والتي تتحاور وتتصارع عبر مواقف وقيم .

ويذهب ميخائيل باختين   إلى أن التمهيد لظهور التعدد اللغوي جاء في إطار ثورة جدرية فيما يخص النوايا الثقافية حيث لم تعد اللغة تدرك كأنها أسطورة، او كأنها شكل مطلق ثابت، بل أصبح من اللازم”أن نتعلم الإحساس بما هو غيري، نمطي مميز ليس في الأفعال والإشارات ومختلف الأقوال والتعابير وحسب بل في وجهات النظر والرؤيات للعالم التي هي عضويا جزء لا يتجزأ من اللغة التي تعبر عنها ” .

ولذلك يرى باختين أن ” مقاومة لغة شرعية واحدة ووحيدة مسنودة بالوحدة القومية التي ما تزال راسخة هي حد قوية بحيث لا يستطيع التعدد اللغوي أن ينسب الوعي اللغوي أدبيا ولا أن يفكك مركزيته، ولن يتم هذا التفكيك اللفظي والإيديولوجي للمركزة إلا عندما تكون الشفافة القومية قد فقدت طابعها المغلق المستقل وأصبح لها وعي بذاتها بين الثقافات واللغات الأخرى ، نخلص إذن ، إلى أن تحقيق التعدد اللغوي رهين بالتحرر من التمركز حول الذات، الذي تجسد  في الفكر الأسطوري، ثم الانفتاح على ثقافة الآخر ولغته المحملة برؤيته للعالم وهكذا تحولت اللغة من شيء وحيد وواحد محمد للمعنى والحقيقة إلى وجه من بين الوجوه الأخرى الممكنة. وبالتالي بدأ ” ظهور بذور النشر الروائي في عالم متعدد اللغة والأصوات خلال الفترة الهيلينية باليونان وفي روما الإمبراطورية وفي أثناء تفكك المركزية الإيديولوجية لكنيسة القرون الوسطى وسقوطها”  وتأسيسا على هذا ، فالنثر الروائي  في العصور القديمة، وببداية توظيفه لثنائية الصوت داخل أجناس تعبيرية قصص واقعية أهجيات ساخرة بعض أشكال البيوغرافيا، قد كان له بالغ التأثير على الجنس الروائي وهنا يرى باختين أن هذه العناصر التي تكونت في العصور القديمة قد أثرت على رواية الاختبارات ( بتفريغها سير القديمين ، الاعترافات المعضلات والمغامرات إلى عهد دوسوفسكي وإلى زمننا هذا ) وعلى رواية التعلم والتطور وعلى الأهمية …”   ويضيف باختين أنها ” أثرت على تنويعات الجنس الروائي جميعها التي تدخل إلى كيانها مباشرة تعددا لهجويا وبالإضافة إلى ذلك أثرت على التعدد اللساني الموجود في الأجناس التعبيرية الدنيا والمألوفة ”  قام أدى النثر الروائي في العصور القديمة إذن يدور هام في تمهيد الطريق أمام ظهور التعدد الذي” انتظم في شكله الأكثر وضوحا وبنفس الآن. الأكثر  أهمية  تاريخيا داخل نصوص ما سمي بالرواية الهزلية وممثلوها الكلاسكيون هم فييلدنغ سوليت ستيرت ديكنز ، ناكردي في أنجلترا وهيجل وجان بول ريتشر في ألمانيا   حيث نجد في الرواية الهزلية الإنجليزية ” استحضار باروديا لمجموع تقريبا مستويات اللغة الأدبية المكتوبة والمتحدث بها في عصرها وقلما نجد رواية واحدة لهؤلاء الكتاب الكلاسيكين لا تكون موسوعة تضم أورده اللغة الأدبية وأشكالها ” .

أما بخصوص ظهور التعدد اللغوي في الرواية العربية فإن محمد برادة يعرض لمراحل تكونه في كتابه ” أمثلة الرواية أسئلة النقد” حيث يرى ” أن ظاهرة التعدد اللغوي في الرواية العربية موجودة منذ بدايات هذا القرن ( ق20) لكن ما يلفت النظر هو بروزها وكثافتها النسبية منذ السبعينات ”   فإعادة قراءة أول رواية عربية ” زينب ” لحسين هيكل ( 1914) تفاجئنا بالأهمية التي يكتسيها هذا النص على مستوى التعدد اللغوي  إذ أننا نستكشف في هذه الرواية صوت الذات المتلفظة المنقسمة عن رغائب مكبوتة عبر مخزون الذاكرة اللغوي وعبر النبرات والكلام الشفوي الجاري على ألسنة شخصيات متباينة اجتماعيا وثقافيا ولجوء الكاتب إلى استعمال العامية والصيغ الشفوية في جزء هام من حوارات الرواية”  بيد أن ظاهرة التعدد اللغوي في الأعمال الروائية العربية لن تبرز بشكل واضح وجلي إلا في ظل تغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية تجلت في هزيمة خزيران (1967) حيث استفحل القمع والحكم الفردي، ويرى محمد برادة ان اللافت في روايات هذه المرحلة الممتدة إلى الآن هو تجديد الواقعية وتطعيمها بعناصر مستمدة من الفانطاستيك والأسطورة والمحكيات الموزونة وكدلك اللجوء إلى استعارة سردية كتب التاريخ والقصص الشعبية وتقنيات الصحافة والسينما والوثائق إلى جانب شكل الرواية داخل الرواية ومزج اللغة المتداولة بالخطاب الصوفي وهذيان الشعر ”   وفي خضم التحولات التي عرفتها هذه المرحلة أصبحت الرواية حاملة للإيديوليوجيا المختفية وراء اللغة التي أصبحت ” جزءا من التجربة التي تعاش بين الأشياء والكلمات وجزءا من مغامرة الكتابة التي لا تتحقق إلا بإعادة صنع اللغة ”  وبذلك فقد ساهمت فترة ما بعد هزيمة حزيران بمختلف أشكال الصراع فيها في جعل اللغة وسيلة تحمل وراءها رؤية جميع الفئات الاجتماعية ووعيهم … ومن أبرز أسماء الكتاب الذين وظفوا التعدد نجد الطيب صالح، وإميل حبيبي وجمال الغيطاني وحنان الشيخ وغالب هلسا وإدوار الخراط وحيدر حيدر وعبد الرحمان ضيف …

وتأسيسا على كل هذه المعطيات نستشف أن أسباب ظهور التعدد اللغوي في الغرب تمثل خلفية استحضارها حين البحث في التعدد اللغوي في النثر العربي إذ نجد أن التخلص من التمركز حول الذات وبالتالي الانفتاح على ثقافات أخرى ، جعلا اللغة تخرج عن إطارها المقدس لنسخر نفسها لخدمة القضايا المعاصرة ووجهات نظر مختلف المتكلمين الذين تختلف انتماءاتهم المتحاورة والمتصارعة والمحكومة بسياقاتها الخاصة وبهذا تصبح الرواية حفلا تتجاذبه ملفوظات وأصوات ونصوص مختلفة حاملة لوعي ورؤية خاصين .
___________________
– محمد برادة ، أسئلة الرواية ، أسئلة النقد، الرابطة ، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1996 ص 30.
– ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان الرباط الطبعة الثانية ، 1987 ص :4.
– نفس المرجع ، ص 12.
– نفس المرجع، ص  115.
ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، مرجع مذكور ، ص 115.
-نفس المرجع ، ص  :117.
-نفس المرجع ، ص  117.
– ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي ص 118.
– نفس المرجع ص 118.
– نفس المرجع ص 63.
– نفس المرجع ص 63.
– محمد برادة أسئلة الرواية ، أسئلة النقد، مرجع مذكور، ص  31
-نفس المرجع ص 32.
– بنفس المرجع ، ص  33.
-محمد برادة أسئلة الرواية ، أسئلة النقد مرجع مذكور ص 24.
– نفس المرجع ص 36-37.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.