طبيعة الإخلال : ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة

مسؤولية المقاول والمقاول من الباطن
الفصل الأول  : المسؤولية العقدية للمقاول والمقاول من الباطن .
المبحث الأول :المسؤولية العقدية للمقاول والمقاول من الباطن قبل التسليم
المطلب الثاني : أحكام المسؤولية العقدية :
يذهب الفقه التقليدي إلى أن الأصل العام لتطبيق أحكام المسؤولية العقدية على المقاول والمقاول من الباطن أن تكون أعمالهم واردة على المباني بحيث لا يختلف محل عمل مقاول من الباطن على محل عمل المقاول الأصلي.
لذا سوف نتحدث في أحكام المسؤولية العقدية عن طبيعة الالتزامات التي يتسبب الإخلال بها وجوب مسؤولية المقاول والمقاول من الباطن ( فقرة أولى) ، حدوث الضرر ( الفقرة الثانية ) ثم تقادم المسؤولية ( فقرة ثالثة ) .

فقرة أولى : طبيعة الإخلال : ببذل عناية أم بتحقيق نتيجة.
لا يكفي لاعتبار المقاول موفيا بالتزامه أن يقوم بتنفيذ العمل المكلف به ، بل يجب أن يكون هذا التنفيذ مطابقا لما هو منصوص عليه في العقد من شروط ومواصفات ، ومتفقا مع توجيه الأصول الفنية المتبعة في القيام بمثل هذا العمل، فإذا أثبت رب العمل عدم مطابقة العمل لما هو متفق عليه، كان المقاول مخلا بالتزامه دون حاجة إلى إقامة الدليل على إهمال أو تقصير في جانبه  .
فأحيانا يطلب من المقاول  نشاط معين يؤمل من ورائه هدف محدد ، فإذا لم تتحقق النتيجة المأمولة فإن رب العمل يصيبه ضرر وهذا الضرر يكفي لقيام مسؤولية المقاول الذي لم ينفذ الالتزام المحدد الذي تعهد به، أو الذي يفرضه عليه القانون ، وفي هذا النوع الأول من الالتزام بنتيجة لا يملك المقاول القدرة على التحلل من المسؤولية بطرح صعوبات معينة أو عقبات كانت مانعا دون تحقيق النتيجة المرجوة. وتعتبر القوة القاهرة هي السبب الوحيد الذي يمكن للمدين الاعتذار من عدم تنفيذ الالتزام ويهتم الدائن   هنا بحصوله على النتيجة أكثر من اهتمامه بسلوك المدين (المقاول) ولا يفيد الأخير التعلل بحسن النية أو السلوك الحريص لإعفائه من نتيجة عدم القيام بالالتزام.
وأحيانا أخرى يتعهد فيها المقاول، أو يطلب منه القانون بذل ما في استطاعته من أجل تحقيق فائدة معينة لرب العمل أو تجنب فعل ضاربه .
ويتصرف في هذا الإطار بعناية وحرص ويبذل الرعاية التي يأتيها رجل معتاد في غاية مصالحه، وبالتالي فإن المقاول إما أن يتعهد في مواجهة رب العمل بأن يحقق له نتيجة محددة أو يقوم بعمل معين،  وإما أن يتعهد في مواجهته ببذل العناية المطلوبة لتحقيق المراد دون أن يصل تعهده إلى ضمان النتيجة أو الهدف المطلوب فالعقد يسمح للأطراف بحرية تحديد التزاماتهم وحقوقهم بدرجة تزيد أو تنقص ما دامت هذه الحرية لا تتعارض مع النظام العام أو الآداب، وغالبا ما يصعب على القاضي معرفة ما تعهد به المقاول وفي هذه الحالة فإن عليه مراعاة العدالة المطلوبة للطرفين، وقد تكون إرادة الأطراف ضمنية لا صريحة في العقد ولكن لا ينفي وجود التزام وبذلك يختلف نطاق الالتزام ومضمونه من اتفاق الآخر .
ففي عقد المقاولة الأصلي يلتزم المقاول بأداء العمل ولا يقضي التزامه إلا بتنفيذ هذا العمل، أي لا تبرأ ذمة هذا المقاول إلا بتنفيذ العمل المكلف به بمقتضى عقد المقاولة الأصلي، وعليه نقول أن مسؤولية المقاول الأصلي تجاه رب العمل إنما هي مسؤولية عقدية وليست تقصيرية، ولكن مضمون التزام المقاول في نطاق المسؤولية العقدية إنما هو التزام بتحقيق نتيجة .
مما سبق نجد أن عقد المقاولة الأصلي لا يختلف في طبيعته عن عقد المقاولة من الباطن، حيث يلتزم المقاول من الباطن بنفس التزام المقاول  الأصلي ويبقى مسؤول تجاه هذا الأخير مسؤولية عقدية. ومنه فمضمون التزام المقاول من الباطن في نطاق المسؤولية العقدية هو التزام بتحقيق نتيجة  . لأن محل التزام المقاول من الباطن هو التزام بإقامة البناء. وهذا ما يتفق مع طبيعة العقد بين رب العمل والمقاول الأصلي.
هذا وقد أيدت محكمة النقص المصرية هذا الاتجاه بقولها ” إن التزام المقاول هو الالتـزام بنتيجة وهي بقاء اللبناء الذي يشيده سليما ومتينا … وأن الإخلال بهذا الالتزام يقوم لمجـرد إثبات عدم تحقـق تلك النتيجة دون حاجة لإثبات خطأ ما  .
وعليه فإن المقاول من الباطن مثله مثل المقاول الأصلي يتحمل الالتزامات العامة التي تقع على كل مقاول نحو رب العمل، وهذه الالتزامات إذا أخل بها أو يأخذ منها كل من المقاول الأصلي أو المقاول من الباطن تحققت مسؤوليته وهي كالتالي :
أولا : إخلال بإنجاز العمل أو التأخر في تنفيذ ؟
ثانيا : إخلال بالتزام المحافظة على الأشياء  المسلمة إليه .

أولا : إخلال بإنجاز العمل أو التأخر في التنفيذ.
أن الالتزام الرئيسي الذي يترتب في ذمة المقاول ( المقاول الأصلي أو المقاول من الباطن ) هو إنجاز العمل على وجه سليم وغير مناف لشروط ومواصفات العقد، لأن الالتزام بإنجاز العمل التزام بتحقيق نتيجة وليس التزام ببذل عناية ، فلا يكفي لإعفاء المقاول من المسؤولية عن القيام بالعمل أو التأخر في القيام به أن يثبت أنه بذل عناية الشخص المعتاد في إنجاز العمل أو إنجازه في الوقت المحدد ولكنه لم يتمكن من ذلك حتى لم أثبت أن المدة المحددة لم تكن كافية لإنجاز العمل  ، بل عليه أن يثبت السبب الأجنبي حتى تنتفي العلاقة السببية وبالتالي لا تتحقق المسؤولية.
إلا أن الالتزام بإنجاز العمل في عقد المقاولة من أجل البناء يختلف عن باقي عقود المقاولة الأخرى، لأن الالتزام بإنجاز العمل كإقامة البناء أو ترميمه أو هدمه أو وضع تصميم لا يبرأ المقاول من التزامه إلا إذا تحققت النتيجة المرجوة وأنجز العمل المطلوب ، ولا يكفي أن يبذل في القيام بهذا الالتزام  عناية الشخص المعتاد أو حتى أكبر عناية ممكنة ، ذلك أنه ما دام العمل المطلوب لم ينجز فإن المقاول يكون مسؤولا ولا تنتفي مسؤوليته حتى يثبت السبب الأجنبي .
ويبقى التزام المقاول من الباطن بمعاونة المقاول الأصلي وما يتضمنه من واجب الإعلام والإشارة بالرأي التزاما ببدل عناية أي أنه يكون مجرد التزام بوسيلة  .
ويتضح لنا مما سبق ان الالتزام بإنجاز العمل في عقد المقاولة من أجل البناء هو التزام بتحقيق نتيجة لا يبذل عناية .
ثانيا : الإخلال بالتزام المحافظة على الأشياء المسلمة له :
قد يقدم رب العمل للمقاول مواد وأدوات تستخدم في تنفيذ العمل موضوع المقاولة ، وفي هذه الحالة تظل هذه الأشياء مملوكة لرب العمل، وفي ذلك تقول المادة 766 ق ل ع عندما يقدم المقاول المادة ….، عندما يقدم رب العمل المادة يجب على الأجير الصنع أن يستعملها وفق ما تقتضيه أصول الصنعة ومن غير إهمال …. ”
فالمقاول يلتزم بالمحافظة على الأشياء المسلمة إليه لاستخدامها في العمل، سواء كانت هذه الأشياء قيمية أم مثلية، وهذا الالتزام يتطلب منه أن يحرص عليها بان يتخذ الإجراءات والاحتياطات الكفيلة بمنع تلفها أو ضياعها.
وعلى المقاول من الباطن (إن وجد عقد مقاولة من الباطن) إذا قدم له من طرف المقاول الأصلي موادا وأدوات أن يلتزم بالمحافظة عليها لاستخدامها في العمل وإذا احتاج حفظ هذه الأشياء إلى نفقات ، فإن المقاول الأصلي يتحملها ولا يجوز له أن يرجع بها على رب العمل ، لأنها تعتبر جزء من النفقات العامة التي يجب عليه أن يراعيها عن تحديد أجرة   ما لم يتفق على غير ذلك .
ولما كان الغرض من تسليم هذه الأشياء إلى المقاول ( الأصلي أو من الباطن ) هو استخدامها في العمل ، فإنه يلتزم بأن يراعي أصول الفن في ذلك.
لأن التزام المقاول بالمحافظة على الأشياء المسلمة إليه التزام بوسيلة فلا يتطلب منه سوى أن يبذل قدرا معينا من العناية في سبيل هذه المحافظة ولما كان التزام المقاول بالمحافظة ليس مقصودا لذاته وإنما هو التزام تابع لالتزامه بالعمل، وكان هذا العمل يتم في مقابل أجر وليس مجانا ، فإن المقاول يلتزم بان يبذل في المحافظة عناية الشخص المعتاد .
فإذا قصر المقاول في بذل هذه العناية ، وترتب على ذلك ان تلفت الأشياء المسلمة إليه من رب العمل، أو أصبحت غير صالحة لاستخدامها في العمل المطلوب أو ضاعت أو سرقت، فإنه يكون مسؤولا عن هذا التلف أو الضياع ، ويلتزم بأن يرد قيمة هذه الأشياء إلى رب العمل ( م 766ق ل ع ) وفضلا عن ذلك يلتزم بتعويضه وفقا للقواعد العامة في المسؤولية العقدية .
ولكن لما كان التزام المقاول بالمحافظة التزام بوسيلة فإن رب العمل الذي يدعي الإخلال به ، يلتزم بإقامة الدليل على ما يدعيه بإثبات أن المقاول لم يبذل فيه عناية الشخص المعتاد، وبعبارة أخرى بإثبات إهمال أو تقصير في جانبه، أو بإثبات قصور كفايته الفنية مما سبب تلف الشيء ، ولكن ظروف الحال قد تسمح باستخلاص قرينة قضائية على هذا التقصير تعفي رب العمل من عبء إثبات الخطأ المقاول ، وتسهل له الوصول إلى حقه، وذلك أن وجود الشيء تحت يد المقاول يجعل من الصعب على رب العمل معرفة السبب الذي أدى إلى تلفه أو ضياعه ، ولكن هذه القرينة إن وجدت فإنها تكون قرينة بسيطة يستطيع المقاول دحضها بإثبات أن التلف أو الضياع لم ينشا عن خطئه وهو يستطيع ذلك بأحد الطريقين : الأول مباشر وهو إثبات انتفاء الخطأ في جانبه، لبذله في المحافظة على الأشياء المسلمة له العناية المفروضة عليه وهي عناية الشخص المعتاد والثاني غير مباشر وهو إثبات أن الهلاك يرجع  إلى سبب أجنبي عنه  .
______________
– محمد لبيب شتنبر ، م س ، ص 116.
– سواء المقاول من الباطن أو المقاول الأصلي .
– رب العمل – م س ، ص 78.
– مصطفى عبد السيد الجارحي
– محمد عبد الرحيم عنبر ، عقد المقاولة دراسة مقارنة ط 1977 ص 111.
– رأفت محمد أحمد حماد ، م س ، ص 44.
– نقض مصري 23/6/1970 مجموعة أحكام النقض مشار إليه مؤلف رأفت محمد احمد حماد ص 53.
– عبد الرزاق السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني الجديد م الأول (7) ط 1998 ص 77.
– مصطفى عبدالسيد الجارحي ، م  س، ص 77.
– رأفت محمد احمد حماد، م س ، ص 53.
– محمد لبيب شنب ، م س ، ص 124
– فتيحة قرة م س ، ص 116.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.