البنية الإستعارية في الخطاب السياسي

الاستعارة بين الإيحاء والتقرير  – الفصل الثالث: 
II-البنية الاستعارية في الخطاب السياسي:
سنقدم في هذا المحور قراءة في البنية الاستعارية لخطاب ألقاه الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما أمام البرلمان التركي من أجل الاستدلال على فرضية مفادها بنينة الاستعارة لخطاباتنا اليومية وكونها الأساس في بناء نسقنا التصوري بالاعتماد على مختلف تجاربنا التي نكونها من احتكاكنا المباشر مع العالم الخارجي. وستكون آلياتنا في قراءة هذا الخطاب معتمدة على ما قدمه التصور التجريبي التفاعلي ممثلا في الاستعارات الكبرى التي تحدث عنها لايكوف وجونسون في كتابهما : ” الاستعارات التي نحيا بها “.

1- نص الخطاب :
سنشتغل على مقتطف من نص الخطاب الذي ألقاه أوباما في السادس أبريل 2009 أمام البرلمان التركي في مبنى الجمعية الوطنية الكبرى.
2- متن الخطاب:
يقول أوباما في حديثه عن العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية:
“صحيح أن الولايات المتحدة وتركيا لم تتفقا دائما حول كل مسألة وهذا أمر متوقع، إذ لا تتفق دولتان معا ( على الدوام ) إلا أننا إذا وقفنا صفا واحدا لمواجهة التحديات العديدة على مدى الأعوام الستين الماضية ، ونتيجة لقوة حلفنا واستدامة صداقتنا أصبحت كل من أمريكا وتركيا أقوى و العالم أكثر أمانا .حاليا يجابه نظامانا الديمقراطيان مجموعة تحديات لا مثيل لها في السابق فهناك أزمة اقتصادية لا تقف عند الحدود ،هناك التطرف الذي يؤدي إلى الإجهاز على رجال ونساء وأطفال أبرياء والضغوط على إمدادات الطاقة والمناخ المتغير وانتشار أسلحة العالم الأشد فتكا واستمرار الحروب المأساوية دون هوادة.

تلك هي التجارب العظمى لقرننا الفتي، والخيارات التي نتبناها في الأعوام القادمة ستقرر ما إذا سيكون مستقبلنا مستقبلا يحدده الخوف أو الحرية ،الفقر أو الرخاء، الصراع أو السلام الدائم المضمخ بالعدل والأمان.

والشيء المؤكد هو أنه لا يمكن لأمة بمفردها أن تتصدى لهذه التحديات وحدها. ولكل أمم العالم مصلحة في التغلب عليها ، ولهذا السبب علينا أن نصغي الواحد إلى الآخر وأن نسعى لأرضية مشتركة ، ولهذا السبب علينا أن نبني على أسس المصالح المتبادلة وأن نترفع فوق خلافاتنا، ونحن سنكون أقوى حينما نعمل سوية وهذه هي الرسالة التي نقلتها طوال جولتي في أوروبا ” .

3- قراءة في استعارات الخطاب :
انطلاقا من قراءة المقتطف السابق يتبين أن التعابير التالية هي تعابير ذات بنية استعارية:
1-الولايات المتحدة وتركيا لم تتفقا دائما حول كل مسألة.
2-إننا وقفنا صفا واحدا خلال التحديات العديدة.
3-أصبحت كل من أمريكا وتركيا أقوى والعالم أكثر أمانا.
4-يجابه نظامانا الديمقراطيان مجموعة تحديات.
5-هناك أزمة اقتصادية لا تقف عند الحدود.
6-تلك هي التجارب العظمى لقرننا الفتي.
7-لا يمكن لأمة بمفردها ان تتصدى لهذه التحديات وحدها.
8-علينا ان نترفع فوق خلافاتنا.
9-سنكون أقوى حين نعمل سوية.
4-الاستعارات الكبرى:
تحدد التعابير السابقة أنساقا تصورية كبرى تشير إلى طريقة تفكيرنا ذات الطبيعة الاستعارية.

*استعارات بنيوية:
1-الدولة شخص
2-النظام الدميقراطي شخص
3-الأمة شخص
4-القرن شخص

استعارات اتجاهية :  فوق/ تحت
1-الخلاف تحت/الاتفاق فوق
تحدد استعارة :الدولة شخص ،كلا من الدولتين ( تركيا والولايات المتحدة الأمريكية) باعتبارهما شخصان يوجدان في حالة عدم اتفاق حول مسألة معينة، وعدم الاتفاق هو الوجه الآخر لحالة الجدال التي هي خصيصة من خصائص الكائن البشري، تحدد هذه الاستعارة سياسية الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة، التي ترى إلى الدول كأشخاص يتحاورون ويتجادلون ليكون مصيرهم الاتفاق أو الاختلاف وهو ما يرسم ملامح السياسة الجديدة التي دشنها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وهي سياسة شعارها الحوار والجدال ، وتقبل إمكانات الخلاف. شعار ما فتئ أوباما يردده طوال حملته الانتخابية. إن استعارة ” الدولة شخص” وبالضبط شخص محاور، تحيل على توجه السياسة الأمريكية في عهد أوباما ، التي تحاول القطع مع سياسة الجمهوريين الذين رفعوا من خلال خطابات جورج بوش الابن شعارا تحدده استعارة مناقضة : الدولة شخص قوي، وهي استعارة سوغت تجاوز وسائل الحوار، لتقدم تبريرا لشن الحرب على العراق.

إن النسق التصوري الذي يبنين فهمنا للإنسان وخصائصه هو نفسه الذي يوجه تفكيرنا في نسق تصوري آخر هو الدولة. ما يؤكد ذلك في نظرنا هو افتراض وجود شعب لا معرفة له بتصور الدولة ولا يملك مفهومنا للفرد في العصر الحديث، سيتم تصور القبيلة في هذا المجتمع ليس باعتبارها شخصا بل باعتبارها مجموعة من الأفراد ، هكذا سنقول مثلا :
1-اتفقت القبيلة
وهي عبارة تؤسسها استعارة كبرى هي : القبيلة جماعة ( مجموعة من الأفراد ).

تجدر الإشارة إلى أن استعارة: الدولة شخص لا تخفي نفس التصورات والأهداف ،إذ إن هذه الأخيرة تختلف من خطاب لآخر ، أو من سياسة إلى أخرى. فإذا كانت هذه الاستعارة، من خلال التوجه السياسي الديمقراطي الذي يمثله أوباما، تؤسس من خلال محددات معينة  للشخص في علاقته بأشخاص آخرين ( الحوار النقاش، الاتفاق، الخلاف) فإنها قد اتخذت أبعادا ومحددات أخرى في خطابات الرئيس السابق، وبما أن الدولة شخص فإن المحدد الأساس للشخص هي مصلحته ” ومن مصلحة الشخص أن يكون قويا ذا عافية. واستعارة ” الدولة شخص ” تنقل هذا المعنى إلى ” مصلحة وطنية” متجلية في اقتصاد معافى وجيش قوي ”  غير أن مصلحة الوطن تتحدد أيضا بما هو غير صالح له، وما هو غير صالح للوطن ، قد لا يكون في مصلحة كثير من المواطنين العاديين سواء كانوا جماعات أو مؤسسات.  هكذا إذن يصبح خيار الانخراط في الحرب أساسا في الحفاظ على مصلحة الوطن التي هي مصلحة الجيش ذاته ” فالحرب تعطي للجيش أهمية وتبرر ما يحتاجه  من ميزانيات “.
وينسحب الأمر نفسه  على استعارتي:
– النظام الديمقراطي شخص
– الأمة شخص

حيث تتم بنينة تصورنا لمفهوم الأمة والنظام الديمقراطي انطلاقا من نسق تصوري آخر ( الشخص). أما استعارة القرن شخص : فيتم فيها تحديد فهمنا  للقرن ( مئة سنة ) من خلال توالي مراحل حياة الإنسان ( الطفولة، الشباب، الرشد، الشيخوخة) ومن ثم نفهم تجربة توالي السنين بالنظر إلى تجربة توالي مراحل حياة الإنسان.
تظهر لنا الاستعارات البنيوية كيف أن الاستعارة تؤسس لنسق تصوري معين، من خلال نسق تصوري أخر يمتح غالبا من علاقة أجسادنا بالعالم المحيط بنا.

رأينا أن الاستعارات الاتجاهية ترتبط باتجاه فضائي معين ، يتم انطلاقا منه فهم مجال تصوري معين، وقول أوباما :” يجب أن نترفع فوق خلافاتنا”، يتضمن استعارة اتجاهية:  الخلاف تحت /الاتفاق فوق. تسعفنا هذه الاستعارة في فهم تصور الخلاف / الإتفاق بمقتضى أساسها في التجربة الفيزيائية. ففي حالة الاتفاق تكون معنويات الإنسان مرتفعة ( فوق) وفي حالة الخلاف يحصل  العكس. تمثل  استعارة : الخلاف تحت، النسق التصوري الذي تصدر عنه السياسة الأمريكية بتبنيها لمنطق الحوار، ومن أجل بلوغ غاياتها تحدد تصوراتها الأساسية انطلاقا من استعارة اتجاهية تثمن الاتفاق باعتباره ارتفاعا ينبغي بلوغه في حين تجعل الخلاف أمرا يوجد في الحضيض علينا تجاوزه بالارتقاء إلى مستوى الترفع عنه. تنبع استعارة الخلاف تحت من ثقافة حديثة تفتح الباب أمام الحوار وإمكانيات الاختلاف والاتفاق.

إلا أن هذا لا يغفل حقيقة مفادها توجيه السياسة للتصور الاستعاري. فالخطاب السياسي يوجه الاستعارة بطريقة تخدم أهدافه أولا، وذلك بغرض تقديم تسويغات لوجهات نظره وقراراته.  وهذا ما يتأكد أكثر باطلاعنا على البنية الاستعارية التي تميزت بها خطابات الرئاسة الأمريكية خلال حرب الخليج الأولى والثانية  .
يظهر إذن كيف أن النص السياسي مبنين استعاريا، حيث تلعب التجربة البشرية بشقيها الانفعالي والفيزيائي دورا هاما في فهمنا لمجالات تصورية مختلفة (كالديمقراطية ، الأمة، الخلافات …. ) وتعبيرنا عنها.
المقاربة اللسانية للاستعارة

 

المقاربة اللسانية للاستعارة

_________________________
– نص الخطاب مقتطف من الموقع الإلكتروني shreah.com
– للتوسع : الرجوع إلى كتاب لايكوف جورج، “حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل ” ترجمة عبدالإله سليم وعبد المجيد جحفة ، دار توبقال ط1 ، 2005 .
-المرجع نفسه ص 40.
– للتوسع الرجوع إلى كتاب لايكوف ، ” حرب الخليج او الاستعارات التي تقتل ” توجهة عبد المجيد جحفة وعبدالإله سليم ، دار توبقال ، ط 1 ،2005 ، البيضاء.

قرأوا أيضا...

1 فكرة عن “البنية الإستعارية في الخطاب السياسي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.