الإستعارة في قصيدة سربروس في بابل

الاستعارة بين الإيحاء والتقرير – الفصل الثالث:
I- الاستعارة في قصيدة ” سربروس في بابل “:
إن  البحث عن الاستعارة في النص الشعري ليس أمرا مجانيا، بل إنه ينبع من تلك العلاقة الجدلية القائمة بين الإبداع الشعري والصورة الشعرية المؤسسة له، وفي هذا الصدد نستحضر قولا لبول ريكور يلخص فيه بنية الاستعارة ووظيفتها في بناء عالم القصيدة يقول :” كل استعارة قصيدة مصغرة” . يمكن أن نقلب المعادلة فنقول مع الحنصالي ” كل قصيدة استعارة موسعة ” . تشير هذه القولة إلى أن الاستعارة أساس بناء القصيدة . وقد كان للتصور البلاغي القديم، وقبله التصور الأرسطي، أثرا هاما في ترسيخ هذا الفهم.

بل إن الأمر تعدى المستوى النظري ليشمل الابداع نفسه، إذ لا نعدم قصيدة تخلو من الاستعارة أو على الأقل من أسلوب مشابهة معين.وإذا كانت الاستعارة مبنينة لعالم القصيدة القديمة، فإن حضورها يزداد أهمية عندما يتعلق الأمر بالشعر الحديث ،وخاصة منه شعر التفعيلة،خاصة أن الحديث عن الشعر الحديث قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالصورة الشعرية.

1-    مدخل إلى  ” سربروس  في بابل”:

1-    ليعو سربروس في الدروب
2-    في بابل – الحزينة المهدمه
3-    ويملأ الفضاء زمزمه
4-    يمزق الصغار بالنيوب، يقضم العظام
5-    ويشرب القلوب
6-    عيناه نيزكان في الظلام
7-    وشدقه الرهيب موجتان من مدى
8-    تخبئ الردى
9-    أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراق
10-    يؤج في العراق
11-    ليعو سربروس في الدروب
12-    وينبش التراب عن إلهنا الدفين
13-    تموزنا   الطعين
14-    يأكله : يمص عينيه إلى القرار ،
15-    يقضم صلبه القوى يحطم الجرار
16-    بين يديه ينثر الورود الشفيق
17-    أواه لو يفيق
18-    إلهنا الفني، لو يبرعم الحقول
19-    لو ينثر البيادر النضار في السهول
2-دراسة البنية الإستعارية للقصيدة:

إذا كانت كل قصيدة استعارة موسعة فإن البحث في البنية الاستعارية المكونة لهذه القصيدة يحيلنا لفهم أعمق لدلالاتها والعلاقات القائمة بين الذات الشاعرة وموضوعها ( بابل) وذلك من خلال حالة الحزن والشقاء والمعاناة التي تتخبط فيها بابل التي هي الوجه الآخر لموطن الشاعر ( العراق ).
يستهل الشاعر قصيدته باستعارة :” ليعو سربروس في الدروب” حيث يشبه الشاعر سربروس بالذئب في عوائه. وسربروس هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية ،ومن المعلوم أن الصوت الذي يصدر عن الكلب هو النباح في حين أن الصوت الذي يصدر عن الذئب هو العواء لذا قد يبدو أن استعارة العواء للكلب ( الأسطورة) أمر زائدا لم يضف شيئا جديدا للمستعار له ( سربروس) وهو ما يجعلنا أمام استعارة غير مفيدة بلغة الجرجاني، غير أن القراءة المتفحصة للاستعارة تكشف عن أن السبب في استعارة العواء أمر أبلغ وأشد تعبيرا عن أسطورة سربروس التي توحي بجو كئيب ومفزع. فسربروس ليس كلبا عاديا، بل إنه كلب له ثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه باستمرار، وينفث السم من أحشائه وله ذيل تنين ، وتكسو ظهره وشعر رأسه ثعابين مرعبة، ومن ثم يكون الهدف من استعمال هذه الاستعارة المبالغة والتأكيد على قوة صراخ سربروس وشدته وهو ما ينفي نظرية الجرجاني في الاستعارة غير المفيدة بآلية تنبع من صلب نظريته في الاستعارة المفيدة حينما أكد التشديد والتأكيد والمبالغة في بناء الاستعارة .

من منظور تفاعلي يعطي أهمية كبرى لحضور الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة يظهر أن هذه الاستعارة تبتعد عن كونها مجرد علاقة مشابهة بين طرفين ( سربروس والذئب) لتصور درجة الاتحاد والتفاعل بين الطرفين فسربروس رمز الموت والشقاء يدخل في علاقة اتحاد بالطرف الأمر ( الذئب) ليكون صورة عميقة لتلك المعاناة التي تعيشها بابل، معاناة ستتأكد أكثر في الاستعارة الواردة في البيت الثاني حيث يشبه الشاعر بابل، او موطنه العراق، بالمرأة الحزينة المهدمة في العادة يثير حزن المرأة ، باعتبارها كائنا هشا وحساما شفقة الآخرين  وتعاطفهم. ومن ثم فالإحساس بحزن المرأة يزداد كلما زادت درجة الارتباط بها وحبها. إن بابل، التي هي موطن الشاعر والحضن الذي يأويه، مثقلة بالآهات والأحزان ، بسبب تغلغل الموت في دروبها. تضعنا استعارة ” بابل حزينة مهدمة ” أمام ذلك الجو النفسي المشحون بالعواطف الحزينة والذي لم يكن ليتحقق دون اتحاد بين الموطن والأنثى وتفاعلهما. إن سربروس ليست مصدر معاناة بابل وحدها بل إنها مصدر معاناة  لسكانها أيضا. يدل على ذلك الاستعارات الواردة في الأبيات (3)،(4)، و(5) . ذلك أن سربروس ذئب لا يكتفي بالعواء فقط، بل يتعداه إلى فعل الإبادة والقتل، فقوة سربروس وشدته باعتباره رمزا للشقاء والموت جعلت الشاعر يؤسس عالما من الاستعارات التي تبين درجة المعاناة والحزن التي تعيشها بابل، فإذا كان الذئب يفترس صيده بعد أن يقضي عليه، فإن سربروس يمارس فعل الإبادة والافتراس معا في آن واحد.وقد استعار الشاعر الأنياب للدلالة على ذلك الفعل البشع الذي يمارسه الموت على أكثر المخلوقات البشرية ضعفا ( الصغار). تبين هذه الاستعارة كيف تؤسس الاستعارة للنص الشعري ، ذلك أن استعارة ( سربروس ذئب) تستلزم استعارة ( الصغار /الناس فرائس).

بعد أن يصف الشاعر جو الحزن الموت الذي يخيم على موطنه ( بابل)، ينتقل إلى مستوى جديد يصور فيه سربروس باعتباره مصدرا ومنبعا لكل علامات الشقاء ويبدو ذلك جليا من خلال استعارة : عيناه نيزكان في الظلام ، حيث يشبه الشاعر عينا سربروس بالنيزك المضيء في الظلام ، وهو ما يزيد في الإلحاح على ذلك الجو الكئيب الذي يسببه انتشار الموت والشقاء في بابل، ففي العادة لا يمكن أن تحصل الرؤية في غياب إضاءة غلا أن عيون سربروس تستمد ضوءها من خلال استعارة العيون نيازك، وهو ما يدل على أن العلاقة بين العينين والنيزكين تتجاوز مجرد المقارنة والمشابهة لتصل درجة التفاعل الذي يصل بين الطرفين في فعل اتحاد جعل العينين تتجاوزان الحاجة إلى الضوء لتستمداه من النيازك حتى في الظلام ،وجعل النيازك في ضوئها مماثلة للعين في تحقق رؤيتها.تصل هذه الاستعارة من خلال تفاعل طرفيها إلى مستوى يطرح القدرة التي تمتلكها الموت على التحكم في مصير الوطن ومصير أناسه وهي قدرة تتجاوز الممكن لتحقق المستحيل من خلال بنية استعارية يحكمها التفاعل والتداخل بين الأطراف .

خلاصة :
نخلص إلى أن البنية الاستعارية المكونة للقصيدة ، تبين العلاقات القائمة بين الذات الشاعرة والعالم المحيط بها.إنها تتجاوز مجرد كونها وجها بلاغيا يتغيا التنميق والتحسين، لتعيد بناء العالم بكيفية خاصة عبر التفاعلات التي تقيمها بين الدلالات والمعاني المختلفة.
ومن ثم تكون البنية الاستعارية في الشعر الحديث وخاصة منه شعر التفعيلة استمرارا للتصور الجمالي الذي يرى في الشعر وعاء للتفاعلات بين الأنا الشاعرة وموضوعها ومن ثم يحصر التفاعل في الاستعارة بين طرفيها داخل نص بعينه هو النص الشعري .إلا أن ما يعمق حضور الاستعارة بهذا الشكل هو كونها جاءت في سياق إبدال شعري يتميز بكونه خليطا متجانسا من الأساطير والرموز الحافلة بالإيحاءات والدلالات.
المقاربة اللسانية للاستعارة
المقاربة اللسانية للاستعارة

______________
– الحنصالي سعيد” الاستعارات والشعر العربي الحديث، ص  15، ط 2005 دار توبقال البيضاء
– المرجع نفسه ص  : 15.
– تموز إله الخصب.

قرأوا أيضا...

1 فكرة عن “الإستعارة في قصيدة سربروس في بابل”

اترك رداً على ilham إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.