الإستعارة في التصور البلاغي الحديث

المقاربة الجمالية للاستعارة – الفصل الأول: 
II- الاستعارة في التصور البلاغي الحديث
نقدم في هذا المحور تصورا بلاغيا حديثا، أفاد من التراث البلاغي القديم وأعاد صياغة إشكالياته من خلال الوعي بالتصورات والتحاليل الحديثة ، ويمثله كتاب جابر عصفور ” الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب” يصم هذا الكتاب مباحثا أهمها :
–    طبيعة الخيال وعلاقته بالصورة
–    الأنواع البلاغية للصورة الفنية
–    أهمية الصورة ووظائفها

من أجل الاقتراب من تصور هذا الباحث للاستعارة، سنستهل هذا المحور بتقديم تعريفه للصورة وما يندرج تحتها من وجوه وأنواع بلاغية ، ونقدم بعد ذلك تفصيلا عن نظرته للاستعارة. ونختم بخلاصة لأهم إضافات هذا التصور في مبحث الاستعارة مقارنا بالتصور البلاغي القديم .
1-مفهوم الصورة الشعرية:
لا يقدم جابر عصفور تحديدا واضحا للصورة بل يكتفي بالحديث عن زاويتين للنظر إلى الصورة. الجانب الأول يتوقف “عند الصورة باعتبارها أنواعا بلاغية هي بمثابة انتقال أو تجوز في الدلالة لعلاقة مشابهة – كما يحدث في التشبيه والاستعارة بأنواعهما- أو لعلاقة تناسب متعددة الأركان كما يحدث في الكناية أو أضرب المجاز المرسل ” .

أما الجانب الثاني فيعالج طبيعة الصورة باعتبارها تقديما حسيا للمعنى. ويستدل الباحث على ذلك بملاحظة النقاد لعلاقة “الصورة بمدركات الحس، وقدرتها المتميزة على مخاطبة إحساسات المتلقي وإثارة ” صورة ذهنية” في مخيلته ”  .

لم يقدم الباحث مفهوما واضحا للصورة بل حصرا لأنواعها في علاقة المشابهة( التشبيه والاستعارة ) أو في علاقة تناسب ( الكناية، المجاز المرسل )، إلا أنه اقتصر على دراسة التشبيه والاستعارة مقصيا بقية الأنواع البلاغية الأخرى ( الكناية ،المجاز المرسل) .وقد علل الباحث هذا الإقصاء بالنظر إلى العدد الكبير من الأنواع البلاغية المكونة للصورة الفنية الشيء الذي قد يترتب عنه التكرار” فما سيقال عن الكناية –مثلا – يمكن أن يقال عن الارادف والتمثيل وما يقال عن التمثيل يمكن أن يقال عن التشبيه والاستعارة ” .
ويبرر جابر عصفور هذا الاختيار بتلك الأهمية التي حظي بها التشبيه في النقد البلاغي القديم وبكونه يشكل مقدمة ضرورية لا يمكن بدونها دراسة الاستعارة وتأملها.

مفهوم التشبيه:
يعرفه جابر عصفور بأنه “علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لاتحادهما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال ” . ويمكن أن تقوم المشابهة بين الطرفين على أساس من الحس ( الاشتراك في الهيئة المادية) أو على أساس العقل ( المشابهة في الحكم أو المقتضى الذهني).  لا تقوم هذه العلاقة حسب الباحث دائما على علاقة اتحاد وتفاعل، أي أنه داخل التشبيه لا يحدث “تجاوز مفرط في دلالة الكلمات بحيث يصبح هذا الطرف الآخر، ولو على سبيل الإيهام، أو تتفاعل دلالات الأطراف مكونة دلالة جديدة هي محصلة لهذا التفاعل كما قد يحدث في الاستعارة ” .

يفرق جابر عصفور بين الاستعارة والتشبيه على أساس العلاقة الرابطة بين طرفيها، فإذا كانت المقارنة مميزة لعلاقة الطرفين في التشبيه ، فإن التفاعل والاتحاد ميزتان للعلاقة الرابطة بين طرفي الاستعارة. فحين نقول :

1- خد كالوردة.
فإننا نعني أن الخد يشبه الوردة في حمرة أوراقها وطراوتها ونضارتها، ولا نريد ما سوى ذلك من عدد أوراق الوردة وطولها ، أي أننا لا نقصد بالتشبيه اتحاد الخد مع الوردة في جميع الأوصاف المادية اتحادا كاملا بحيث يصبح أحدهما هو الآخر. ويرى الباحث أن القدرة على رؤية التشابهات هي خصيصة الشاعر الحاذق الذي يتميز بامتلاكه لقدرة ذهنية خاصة تجعله يرى أبعد وأدق مما يرى البشر العاديين، وهو برأيه هذا يكرس رؤية البلاغيين القدامى الذين رأوا في الاستعارة والتشبيه نبوغا يبرز على لسان المبدعين ويؤثر في المستمعين.

مفهوم الاستعارة :
أ_ في التراث النقدي والبلاغي :
قبل إعطاء مفهومه عن الاستعارة يقدم الباحث مفهوم الاستعارة في التراث البلاغي والنقدي القديم الذي رأى إلى الاستعارة باعتبارها ” علاقة لغوية تقوم على المقارنة شأنها في ذلك شأن التشبيه ” . وميزة الاستعارة أنها تعتمد على الاستبدال أو الانتقال بين الدلالات الثابتة للكلمات المختلفة، فالمعنى لا يقدم فيها بطريقة مباشرة بل إنه يقارن أو يستبدل بغيره على أساس من التشابه. وإذا كنا نواجه طرفين في التشبيه فإننا في الاستعارة نواجه طرفا واحدا يحل محل الطرف الآخر ويقوم مقامه .

وعلى هذا  الأساس  نكون،  في  الإستعارة ، أمام معنيين : المعنى الحقيقي    والمعنى  المجازي . الأول  سابق  في  الوجود ،  أما  الثاني  فهو “بمثابة  وجه  من أوجه الدلالة  على  الأول ،  وطريقة  خاصة  من  طرائق  تقديمه ،  وإحداث خصوصية  فيه “.

وللتدليل  على  هذين  المعنيين ،  يقدم  الباحث  استعارة  ” قيد  الأوابد ”  الواردة في  قول  امرئ  القيس  في  وصف  فرسه:
وقد أغتدي والطير في وكناتها        بمنجرد قيد الأوابد هيكل.

فالمعنى  الأصلي  لهذه  الاستعارة  أن  هذا  الفرس  ” مانع  الأوابد  من  الإفلات  والذهاب ” وهو  معنى  يتوصل  إليه  المتلقي  عن  الطريق  نوع  من  القياس ، ومن  ثم  فالوصول  إليه  يتطلب  وجود  علاقة  عقلية  واضحة  تربط  بين المعنيين، وتسمح  بالانتقال  من  ظاهر الاستعارة  إلى  حقيقتها. إن  هذه  الملاحظة  هي  التي دفعت  الباحث  إلى  ملاحظة  مفادها  أنه  ليس  ثمة  فارقا  بين  الاستعارة  و مقابلها الحرفي  أو الحقيقي ، إذ  تؤدي  الاستعارة  نفس  المعنى  الذي  تؤديه  العبارة  الحرفية .  ومن  ثم  تصبح  الاستعارة  مجرد  ترجمة  جيدة  أو معرضا  حسنا،  ليست لها  فاعلية  في  خلق  المعنى  وإيجاده .

ب – في تصور جابر عصفور:
–    الاستعارة تفاعل :
بعد  أن  انتقد  الباحث  تصور الاستعارة  في  التراث  النقدي  والبلاغي  القديم ، عرض  نظرته  لها انطلاقا من لفت النظر إلى  بعض  التعابير  الاستعارية  التي خرجت  عن  الشق  الذي  حدده  القدامى ، مؤكدا أن الاستعارة  قد تقوم  على  درجة من  درجات  التقمص  الوجداني ، تمتد  فيه  مشاعر الشاعر إلى  كائنات  الحياة  من حوله ، فيلتحم  بها ويتأملها  كما  لو  كانت هي  ذاته ، ويلغي الثنائية  التقليدية  بين الذات  والموضوع”  .  وهو ما يخرج التعبير الاستعاري من دائرة الحدود الصارمة التي وضعها القدماء .ويجعله ،  حسب  تصور الباحث ، لا  يعتد  بحدود  التشابه الضيقة  بقدر ما  يعتمد “على  تفاعل  الدلالات  الذي هو – بدوره – انعكاس وتجسيد لتفاعل الذات الشاعرة مع موضوعها ” .

وللاستدلال على تصوره التفاعلي للاستعارة قدم جابر عصفور بيتا من الشعر للمثقب العبدي يقول فيه عن ناقته :
تقول  وقد  درأت  لها وضيني            أهذا  دينه  أبدا  و ديني
أكل الدهر حل وارتحـــــال         أما  يبقي  علي  و لا يقيني

يرى الباحث  أننا  أمام  درجة  من  درجات  تفاعل  الذات  الشاعرة  مع  موضوعها .” فالشاعر لا يسقط  مشاعره  على  ناقته ، ويخلع  عليها  حزنه  العميق  من قدره  فحسب ، بل  نحن  أمام  ذات  تحاول  أن  تعي  نفسها  من  خلال   تأملها  لموضوعها ، وهو تأمل لا يحفظ  للطرفين  تمايزهما و استقلالهما ، بل  يداخل ويزاوج  بينهما  بطريقة  تنتهي  إلى  تعديل  كلا  الطرفين  على  السواء”  .إن الاستعارة حسب هذا التصور عبارة عن  تفاعل  بين الطرفين ، أي  بين الشاعر والعالم  الخارجي . ويتحدد  فهمها  بقدرة  الشاعر على تعديل علاقات هذا العالم وإعادة  تشكيلها  من  جديد . ويلتقي  تصور الباحث مع  الطرح  الوارد  في  كتاب وارين و ويليك في كتابهما ” نظرية الأدب ” . حيث يرى هذان  الباحثان  “أن أرفع أشكال الاستعارة هي  تلك  التي  يتبادل  طرفاها  التأثر والتأثير ، على  نحو يفضي إلى  تخلق  معنى  جديد  ناتج  عن  العلاقة  المتفاعلة  بين  الطرفين ” . ويطلق على هذا  النوع  الاستعارة  الموسعة  أو الممتدة  Expensive  Metaphor.

خلاصة :
انطلاقا من التصور العربي الحديث للاستعارة يمكن أن نخلص إلى ما يلي:
– الحديث  عن  مفهوم  الصورة  الفنية  باعتباره  مفهوما  أوسع  يضم  إليه  كل الصور البلاغية  سواء  كانت  مؤسسة  على  المشابهة ( التشبيه  والاستعارة ) أو مؤسسة  على  المناسبة  (الكناية ، المجاز المرسل ). إن  هذا  المفهوم  الفضفاض  لم  يمنع  الباحث  من التركيز على الاستعارة  باعتبارها  الوجه البلاغي الأبرز ، يدل  على  ذلك  إفراده  لفصل  خاص  بدراسة  الاستعارة  و التشبيه.
•    الربط  بين  الاستعارة،  وجها  بلاغيا، واللغة  الشعرية . ومن  ثم  عدم  استثمار بعض  ملاحظات  النقاد  القدامى  للاستعمالات خارج – شعرية  التي  يمكن  أن  تشمل  الاستعارة ، وفي هذا  الصدد  نستحضر اشارة  عبد القاهر الجرجاني  إلى  استعمال  الاستعارة  في  ما هو شعري  و ما هو غير شعري .
•    استمرار النظرة  التقليدية  التي  ترى  إلى  الاستعارة  خصيصة  من  خصائص الشاعر الحاذق  الذي  يتميز  بذهنية  خاصة  تمكنه من رؤية  الاختلافات والتشابهات .
•    انتقال  جابر عصفور من  النظر إلى الاستعارة  باعتبارها  مقارنة  و استبدالا بين  طرفين ، يتم  عن   طريق الانتقال  من  المعنى  الحرفي  إلى  المعنى المجازي  إلى  تبني تصور جديد  يرى  أن العلاقة  بين  طرفي الاستعارة هي علاقة  تفاعل . وهو تصور بناه  الباحث  بالاستفادة  من  النقد  الحديث  غير أن هذا  لم  يمنعه  من السقوط  في  التصور الجمالي ، الذي  يربط  بين  الاستعارة  و الاستعمال الشعري ،الذي  تمثله  قدرة  الشاعر على  تقديم  رؤى  جديدة  للعالم   والعلاقات  داخله.

تـركـيـب :
نخلص  إلى  أن  المقاربة  الجمالية   للاستعارة  قد  حصرتها  في الاستعمال  اللغوي الشعري ، الذي  يرى  أن الشاعر صاحب  قدرات  خاصة  تمكنه من رؤية التشابه في ما هو مختلف .بالرغم  من  أن النقاد  القدامى ، ومنهم الجرجاني،  قد  قدموا التفاتات هامة ، تضمنتها  نظرياتهم  في البلاغة ، تشير إلى امكانيات أخرى للحديث  عن  الاستعارة  باعتبارها  أمرا يتجاوز اللغة  الشعرية  ليمس  خطابات أخرى غير شعرية .
فإن النقاد  المحدثين ، لم  يقدموا  جديدا بخصوص النظر إلى الاستعارة .إذ كرسوا ولو في  إطار مفاهيم  جديدة ، التصور الجمالي  القديم الذي  يرى  في الاستعارة  وسيلة  تزيين و تنميق.
المقاربة اللسانية للاستعارة

 

المقاربة اللسانية للاستعارة

_______________________
– عصفور جابر، “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب ” ص  10 طبعة 3 – 1992 المركز الثقافي العربي _البيضاء .
– عصفور جابر، “الصورة الفنية”مرجع مذكور ، ص  10.
– المرجع نفسه  ، ص  171.
– المرجع نفسه ص 172
– المرجع نفسه ص 172.
– عصفور جابر” الصورة الفنية “مرجع مذكور، ص  201.
– المرجع نفسه ص 201.
–  المرجع نفسه، ص 202.
– عصفور جابر “الصورة الفنية”،مرجع مذكور ص  205.
– المرجع نفسه ، ص 201.
– المرجع نفسه ص 205.
– المرجع نفسه، ص 205.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.