دور المحافظون الجدد في صياغة الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة

دور العامل الديني في السياسة الخارجية الأمريكية
الفصل  الثاني: المحافظون الجدد وصناعة القرار الأمريكي.
المبحث الثاني: تأثير المحافظون الجدد في المسرح الدولي من خلال السياسة الخارجية الأمريكية.

منذ أكثر من ربع قرن حاول اليمين المحافظ الأمريكي فرض هيمنته الإيديولوجية والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وقد حقق في مهمته هذه نجاحات متفاوتة، فأمريكا التي استطاعت أن تكسر عزلتها بانخراطها في الحرب العالمية الثانية؛ خرجت بأكبر الامتيازات بالمقارنة مع التضحيات الهزيلة التي قدمتها. والأكيد أن هذه المغامرة ستدفع السياسة الخارجية الأمريكية إلى مزيد من التدخل في الشؤون الدولية، إفتتحتها بدخول غمار حرب باردة طويلة أدت ثمنها باهضا في إطار حروب الوكالة التي تقابلا فيها الطرفان وإن بشكل غير مباشر .
غير أن السقوط المفاجئ للإتحاد السوفياتي وإعلان بوش الأب عن ميلاد نظام عالمي جديد يكرس التفوق الإستراتيجي الأمريكي؛ أعطى الولايات المتحدة الأمريكية الحق الحصري في اللجوء إلى القوة لحل النزاعات الدولية .وبذلك وجد الفكر اليميني المحافظ الفرصة المواتية للتسرب إلى أغوار الإدارة الأمريكية في محاولة منه لتحويل أفكاره وأحلامه إلى برامج عملية، وقد تأتى له هذا إثر الزواج بين كل من اليمين الجمهوري السياسي واليمين الديني المتطرف الأمر الذي مهد له الوصول إلى البيت الأبيض وبقوة كما يظهر في إدارة بوش الحالية .والأكيد أن هذه المغامرة قد أعادت إلى الأذهان تلك التي خاضها الآباء المؤسسون الأوائل؛وذلك من خلال إحياء الثلاثية المقدسة المتمثلة في “العسكري والتاجر والمبشر” .وعليه كما سنرى فإن الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة (المطلب الأول) قد حددت المعالم الكبرى للسياسة الخارجية في النظام الدولي الجديد التي انتقلت من التسلط العولمي مع كلينتون الى عولمة الإرهاب مع بوش الابن (المطلب الثاني) في محاولة إنفرادية لإبتلاع العالم وأمركته وإخضاعه لفكرة “استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة “.

المطلب الأول : دور المحافظون الجدد في صياغة الإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة.
منذ بيرل هاربر في 1941 أخذت الولايات المتحدة الأمريكية في الإنخراط في الشؤون العالمية ، بقوة بدون تراجع ، وقد أفرز هذا الإنخراط نوعا من التشابك بين المطمح القومي للدفاع عن المصالح الأمريكية من جهة ونزعة الحركة التدبيرية التي تسعى إلى إقامة الألفية الثالثة السعيدة ،وأكيد أن هذا التشابك الذي عبر عنه وصول المحافظون الجدد إلى المؤسسات السياسية سيحدد المعالم الكبرى لسلوكات وتصرفات الساسة الأمريكان ، ففي 10يونيو 1942 أفصح الرئيس روزفيلت أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتبع طريقتين واضحتين في نفس الوقت إبان الحرب العالمية الثانية؛ أولهما إمداد فرنسا وبريطانيا بالموارد المادية، وثانيهما الإسراع لتطوير الموارد لدعم القوات المسلحة الأمريكية ” . وبذلك تكون هذه هي الخطوة الأولى في تكسير “انعزالية أمريكا” ،وقد كرس هذا مشروع قرار “الإعارة والإيجار” الذي استطاع روزفلت أن يقنع به الكونغرس حيث أكد أنه:أفضل طريق لإقصاء الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب هو أن نبدل كل ما في وسعنا الآن لمساندة الأمم التي تدافع عن نفسها ضد هجمات جيوش المحور ..فهدفنا الوحيد هو إبعاد شبح الحرب عن بلدنا وشعبنا ..عن طريق جعل أمريكا مؤسسة عظيمة لتصنيع الديمقراطية ” . إنها مرحلة جديدة في الإستراتيجية الأمريكية تكون فيها متورطة تماما في شؤون العالم ، وأصبح الوضع يتطلب منها التدخل وبشكل مكثف مع الحرص على تجنب الخسائر البشرية التي قد تهز من استقرار الأمن الداخلي ،وهذا ما حاول روزفلت أن يؤكده في خطابه الشهير “أود أن أؤكد لكم أيها الآباء والأمهات ..أنني لن أرسل بأبنائكم إلى أية حروب أجنبية ” . إنها كما يقول ستيمسون “إعلان لحرب اقتصادية “.

وبانتهاء الحرب أصبحت أمريكا تتمتع بنفوذ قوي في أربعة أخماس أهم مناطق صناعية في العالم..لقد كانت النتيجة تدعو للسخرية، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية فازت بأكبر المكاسب بالمقارنة مع القوى العظمى الأخرى رغم أنها قدمت أقل التضحيات ” .إنها في رأي العالم” بطلة العدالة والحرية والديمقراطية “.غير أن هذه المكاسب ستتعرض لخطر السوفيات الذي بدأ الإحساس بعدائه يسري إلى كواليس وزارة الخارجية الأمريكية، وهذا ما عبر عنه جورج كينان بقوله “يجب ألا نفعل أي شيء يجعلنا نظهر كأننا نحدو حذو “تشرشل في تأييده المعنوي لقضية روسيا ، يبدو لي أن الترحيب بزمالة روسيا في الدفاع عن الديمقراطية ،سيؤدي إلى إساءة فهمنا ” ،فكل مايطلبه كينان أنذاك وهو أن يوقف روزفلت إمداد الروس بالدعم والتمهيد لمواجهتهم؛ وذلك “بتخييرهم بين تغيير سياستهم تماما والموافقة على التعاون على إنشاء دول مستقلة حقا في أوربا الشرقية، وبين فقدان تأييد ورعاية دول الغرب الحليفة خلال المراحل المتبقية من العمليات الحربية ” .

إنها مرحلة جديدة للدبلوماسية الأمريكية؛ تحددت معالمها في سياسة الفهم العام لجورج كينان الذي أكد أن الإعتراف بالمصلحة القومية المعروفة بالعقل بحسبانها الدافع الشرعي للقسم الأكبر في سلوك الأمة ،والإستعداد للسعي وراء المصلحة دون ذريعة أخلاقية أو اعتذار ، ستكون السياسة هي التي تبحث الإمكانات التي تخدم مبادئنا الأخلاقية في سلوكنا وليس في حكمنا على الآخرين ..وذلك في الاقتصار على الاهتمام بشؤوننا مالم تكن هناك أسباب قاهرة للاهتمام بشؤون الآخرين ” .ومع تنامي المد الشيوعي لم يجد ترومان من بد إلا أن ينصب نفسه المدافع عن حضارة الغرب “إلا أن تلك السياسة تضمنت “أبعادا عنصرية حيث أن تطبيق مصطلح حضارة الغرب على الملونين في العالم كان يعني حكم الرجل الأبيض .لقد انتهت فترة سيادة أوربا الغربية ولم يبقى من جنس الرجل الأبيض غير الأمريكيين ..إن أهم ما في الموضوع هو أن جميع الأمريكيين بما في ذلك شخصيات بارزة في الحكومة كانوا على ثقة من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام قوتها ونفوذها لإصدار الأمر إلى العالم كله بإتباع الرأسمالية الديمقراطية على النمط الأمريكي .
إن هذه الثقة التي عززها مشروع “منهاتن”وتمكن أمريكا من صنع القنبلة الذرية ستؤدي إلى علاقات أقل “همجية”مع روسيا ،حيث بدت القنبلة وكأنها معجزة مرسلة من السماء إلى الأمريكيين ، فقد أصبح في استطاعتهم فرض رغباتهم على أي أمة بمجرد التهديد باستخدام القنبلة؛ إلا أن هذه التهديدات لم تمنع فشل أمريكا من إقرار حكومة ديمقراطية ببولندا، إضافة إلى تشابك أزمة إيران وتركيا، بل وتطورت الأزمة أكثر عندما صرح المعسكر الشرقي بمقترح وضع حد نهائي لإنتاج واستخدام الأسلحة الذرية، حيث رد عليه إيزنهاور بقسوة ووضوح بقوله :”إذا تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن القنبلة الذرية، كيف تتمكن من صد الجيش الأحمر” .وبذلك بدأ سباق التسلح يشق طريقه نحو المستقبل وأدخل العالم في دوامة من التهديدات والتهديدات المضادة، مما فرض تغييرات متميزة في السياسة الخارجية الأمريكية وفي العلاقات الدولية بصفة عامة لتحديد مناطق نفوذ كل معسكر في العالم، الأمر الذي فتح المجال أمام إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة في أي لحظة .

إن الوضعية العامة للمنظومة الدولية فرضت علة ترومان صد الشيوعيين ولكن بطريقة أكثر عملية، حيث أكد في خطاب وجهه للشعب الأمريكي في 12/03/47″إنني أؤمن أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تساند الشعوب الحرة التي تقاوم محاولة الاستعباد ، سواء من خلال الأقليات المسلحة أو عن طريق الضغوط الخارجية ” . وقد نجح ترومان من إقناع الشعب الأمريكي لقيادة حروب صليبية بطولية لتحضير العالم اجمع؛ وأن يكون تدخله في العالم صراعا بين الظلام والنور؛ أو الخير ضد الشر حسب تعبير ترومان .
وعلى أساس هذه الخلفية انطلق مشروع مارشال لتهيئ وإعادة بناء أوربا الغربية التي دمرتها الحرب؛ وحماية الجزر اليونانية وتركيا وإيران من الضغط السوفياتي، وأكيد أن هذا التطور في الإستراتيجية الأمريكية كان سيصطدم مع مطامح السوفيات في امتلاك أكبر قدر من العالم مما كان يلوح في الأفق بملامح نشوب حرب نووية مدمرة.
وفي خضم هذا التوتر كشف ترومان بشكل مباشر وأكثر وضوحا بيانا شاملا للإستراتيجية القومية الأمريكية، من خلال وثيقة حملت رقم 68 لمجلس الأمن القومي..إنها كما يقول والتر لافيير :”إحدى الوثائق التاريخية الرئيسية الخاصة بالحرب الباردة . إنها المبرر الوحيد في تولي أمريكا دور دركي العالم كله .وقد أدرك ترومان أن هذه الوثيقة تعني بدل مجهودات عسكرية فائقة في زمن السلم، وكانت تعني أيضا مضاعفة الميزانية أو زيادتها حتى ثلاثة أمثال ،كما كانت تعني كذلك إجراء تغييرات جسيمة في الطريقة التي تعودنا أن ننجز بها أعمالنا في زمن السلم ” .وبذلك تكون هذه الوثيقة قد وضعت معالم الرؤية الأصولية للنزعة العدوانية الشرسة للسوفيات في خضم الحرب الباردة. التي هي في الأصل حرب فعلية يتوقف عليها بقاء العالم الحر ،طرف هو النبل والسمو وطرف آخر هو الشر المطلق حسب تعبير جمعية جون بيرتش اليمينية المتطرفة، ووعاظ أصوليي اليمين .

وفي هذا يقول بول نيتز محرر الوثيقة رقم “68” لمجلس الأمن القومي أن “المخطط الإستراتيجي الأساسي للكرملين هو التخريب الكامل أو التدمير عن طريق العنف لكل من آلية الحكم وبنية المجتمع ،فالهدف الحقود الثابت لدولة العبيد يكمن في الإجهاز على تحدي الحرية في كل مكان، والاندفاع الطليق للكرملين يطالب بالسلطة الشاملة على جميع الناس داخل دولة العبيد نفسها مع سلطة مطلقة على سائر العالم ،وقوة الشر هي قوة كفاحية بالضرورة ، مما ينفي حتى مجرد التفكير بالمصالحة أو التسوية السلمية ،إنها مرحلة حرجة بالنسبة للشعب الأمريكي الذي كان مضطرا لتقديم مزيد من التضحيات والتخلي عن بعض امتيازاته في دوامة الصراع المفروض عليه ، فالمهم من وراء كل هذا بشكل خاص بالنسبة للشعب الأمريكي هو “تحصين نقاباتنا العمالية،ومشروعاتنا المدنية ومدارسنا وكنائسنا مع سائر أجهزة الإعلام ووسائل التأثير في الرأي ضد النشاط الشرير الذي يقوم به الكرملين؛ الذي يسعى إلى تخريبها وجعلها بؤر للنهوض في اقتصادنا وثقافتنا وبنياتنا السياسية ” .ومنذ ذلك الحين أصبحت أمريكا منشغلة إما بحرب أومجابهة كما تفرضها قيود الحرب الباردة ، إنه اختبار حقيقي لمبدأ الإحتواء الذي شكل عصب حلم أمريكا في حماية العالم من كتلة سوفياتية معادية، لذا فإن ميكائيل هاوارد –أستاذ التاريخ في أكسفورد-يقول:”طوال مائتي سنة قامت الولايات المتحدة الأمريكية دونما تردد يذكر بحماية المثل الأساسية الأولى للتنوير ؛والإيمان بحقوق الفرد الممنوحة من الله ؛وبالحقوق المتأصلة في المجتمع؛وحرية الكلام ؛وبنعم المشروع الحر؛و بإمكانية تحقيق كمال الإنسان ؛وبشمولية هذه القيم قبل كل شيء ” .إنها جملة من المبادئ المرموقة التي تؤسس معالم المنظومة الأخلاقية للقومية الأمريكية؛ المؤطرة لأداء أمريكا كقوة عظمى في العالم، إنها منظومة متجدرة في التراث الأمريكي منذ جون أدمز إلى تيودور روزفلت وويلسون .فالدور الأمريكي شبيه بذلك الدور الذي يمكن تخصيصه للأستاذ أو المشرف أو أي محرر آخر. إنها رسالة تم إحياؤها في مبدأ ريغان الذي دعم ” أولئك الذين يخاطرون بحياتهم في سائر القارات من أفغانستان إلى نيكارغوا لتحدي العدوان المدعوم سوفياتيا .

إنها سياسة لاتحتمل التردد ولا التراجع، سياسة تفرض على النموذج الأمريكي أن يكون حازما في صده للشيوعية ،ففي الفترة التي وصل فيها مشروع مارشال ذروته، وبات دور المساعدات الأمريكية أكثر إيجابا، انطلقت معه حملة جد متوحشة لاتخضع لأية قواعد تحكمها “ومن ثم فإن معايير السلوك الإنساني المقبولة لاتسري هنا، لذا يتعين علينا تطوير إدارات للتجسس ولمقاومة التجسس ،كما يجب أن نتعلم أن نخرب ونقوض أعداءنا بوسائل أكثر مهارة وأكثر تطورا وأكثر فاعلية عن تلك الوسائل المستخدمة ضدنا . وبالتالي دخلت أمريكا نفقا يصعب عليها أن تحدد مصالحها خصوصا بعد تنامي المد الشيوعي في دول العالم الثالث ، فبعد كوريا ثم الصين هاهي كوبا وإفريقيا ، فالولايات المتحدة التي زادتها الحرب الباردة صلابة، أصبحت الآن على استعداد للتعامل مع كل المشاكل الصعبة والعويصة واتخاذ كل الإجراءات لمنع ظهور كوبا أخرى من جديد؛ إنها آفاق جديدة للعظمة الأمريكية التي أفصحت عنها الرؤية الخاصة المفعمة بالتفاؤل لجون كينيدي الذي كان يؤمن بان الولايات المتحدة الأمريكية كانت آخر وأفضل أمل متاح للبشرية لتحقيق الرجاء والسعادة والحرية في كل شعوب العالم ..ولتعرف كل أمة سواء تتمنى لنا الشر أو الخير أننا سندفع أي ثمن ، ونتحمل أي عبء ،ونواجه أي مشكلة ونساند أي صديق ،ونقاوم أي أعداء من أجل ضمان بقاء ونجاح الحرية ..إننا نتعهد بكل ذلك أو أكثر . فقد ظلت الأهداف الأمريكية كما هي بلا تغيير؛ وكان حلم جون كينيدي اتخاذ زمام المبادرة في الحرب الباردة ،والإسراع في سباق التسلح من خلال بناء القوة المضادة للتمرد ضدا على أي عصيان مسلح أو ثورة في أدغال آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ عن طريق حرب العصابات أو فرق القبعات الخضراء، إنها حالة من إشاعة الحرب؛ حتى يعلم العالم أنه لا مجال لما يطلق عليه حروب التحرير الوطنية. “فعندما أخذتنا الحماسة الوطنية في سنوات كينيدي، سألنا أنفسنا ما الذي يمكن أن نفعله من أجل وطننا ؟ فأجاب وطننا أقتل الفيتناميين الشيوعيين” هكذا عبر عن ذلك فيليب كابوتو . إن هذا التحرك القوي والتدخل العنيف في الشؤون الداخلية للدول في العالم لم يؤججه سوى تنامي”سيل العقائد الشريرة والقدوات الخبيثة”؛وردا على رسل التحريض على الفتنة تساءل الأمريكيون :”ماذا سيحل بديننا ومؤسساتنا السياسية، بالقوة الأخلاقية لحكوماتنا وبالنظام المحافظ الذي صاننا من التحلل الكامل .لو أن عدوى المبادئ الشريرة لم يردعهما رادع ” .

غير أن هذا المخلص لم يكن في الحقيقة غير أمريكا ، فالسيطرة الأمريكية على العالم نضر لها الآباء ونفدها وخاض غمارها الأحفاد، فلم يكن الرئيس “هواراد وليم”يحلم وهو يرى “أن اليوم الذي يكون فيه نصف الكرة الغربي برمته ملكا لنا من الوجهة الفعلية ليس ببعيد تماما ، مثلما أنه اليوم ملك لنا .حقا من الوجهة الأخلاقية بحكم تفوقنا العرقي ” . إنها الأخلاق التي نهم منها ريغان وهو ينظر إلى غير الأمريكان أنهم “أولاد مشاكسون يمارسون جميع امتيازات وحقوق الكبار”،بل على أمريكا وهي تأذبهم أن تعاملهم بقسوة ،وهذا ما جعل تصريحاته تتسم بقدر كبير من الغلظة والصرامة وهو ينظر إلى أن الإتحاد السوفياتي هو بؤرة الشر في العالم الحديث ” ؛ وأن مكافحة هذا الخطر يستوجب الجمع بين أشكال القتل العسكرية و غير العسكرية ،ففي فترة ريغان “برز ما يعرف آنذاك ضرورة الذهاب إلى المصدر”بهدف تحقيق ما تريده وما يتفق مع مصالحها ،ومنع ما يتهدد هذه المصالح إنها ممارسة صريحة للقوة ” ؛ من خلال بناء قوة عسكرية رائدة بتصعيد سباق التسلح إلى درجة أصبحت الصناعة العسكرية الأكثر ازدهارا في العالم حيث “وصل الإنفاق العسكري في كل أنحاء العالم إلى حوالي 350 بليون دولار سنويا ؛أو 150 دولار لكل شخص على وجه الأرض” .إنها مرحلة لإشاعة الحرب وتسويقها في العالم؛ حيث استطاعت القوى الغربية أن تلجأ إلى العنف الدولي ، وإنها ليس ضد بعضها البعض .إن هذه الحرب والعسكرة لم تكن ممكنة لولا حضور اليمين الجديد في التوازنات المؤسساتية، إذ كان بالإمكان تصور أجوبة أخرى أقل تهديدا لاستقرار المنظومة الدولية في غيابه .فالمخطط الأمريكي للسيطرة الأحادية على العالم عبر التفوق العسكري المطلق استطاع تخريب سياسة الانفراج بين الغرب والشرق من خلال توحد اليمين الراديكالي مع اليمين الحزبي الجمهوري واختراقه للمؤسسات السياسية.

وقد اتضحت تفاصيله أكثر في حقبة الثمانينات عندما قامت المجموعة نفسها بأوسع تعبئة عسكرية عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية في زمن السلم ؛عندما طرح المحافظون الجدد عقيدة التفوق. لتنتقل أمريكا بذلك من سياسة الاحتواء والتعايش إلى التدابير الفاعلة ، وبذلك كما يقرر ريتشارد بييرل – وهو أحد المحافظين الجدد النافدين في الإدارة الأمريكية –كان يجب على أمريكا تقديم البرهان على أن الانفراج غير فعال، وإعادة الاعتبار لأهداف تؤمن الانتصار ” بل أكثر من ذلك ،فلإنعاش رغبة الانتصار في نفوس الأمريكيين ، فقد راح اليمين يزور المعطيات ويضخم في الحقائق ، حيث أضحت التقديرات الإستخباراتية الوطنية مليئة بالأحكام التي لا أساس لها حول النيات السوفياتية .
لقد تم ببساطة اختراع هذه التعميمات السخيفة والمجافية للحقيقة من أجل تغيير ميزان القوى داخل المؤسسات الأمريكية ، كل هذا دفع رونالد ريغان في مارس 1983الى إعادة النظر في الهندسة العامة للأمن النووي التي أقامها نيكسون من خلال معاهدة حضر الصواريخ النووية التي أقامها نيكسون من خلال معاهدة حضر الصواريخ النووية لعام 1971 ، وأضاف إلى هذا إرساء دعائم مبادرة الدفاع الإستراتيجي الذي باتت معالمه في البزوغ بعد الأحادية التي تحققت عام 1991 بانهيار المعسكر الشرقي ، وظهور المخطط الأمريكي للسيطرة الأحادية على العالم عبر التفوق العسكري المطلق.

وخلاصة القول فمنذ ما يقرب ربع قرن ونيف حاول اليمين المحافظ الجديد الأمريكي فرض هيمنته الإيديولوجية والسياسية على عموم الشعب الأمريكي لضمان الحماية الشعبية للتدخل الأمريكي في العالم ؛قصد تحقيق حلم إقامة مملكة الرب الكبرى. وكلما تدخلت في بقعة من العالم إلا صوغت لنا مصوغا يبعدها عن اللوم والعتاب ويجعلها بطلة العالم ومنقذه .فمن مصوغ حماية المصالح القومية مع ترومان إلى حلم تنوير وتحضير العالم بمشروع مارشال إلى حماية الحرية والشعوب التواقة للتحرر مع جون كيندي ،إلى صيانة الديمقراطية وحماية حقوق حقوق الإنسان مع كارتر ،وأخيرا مع استئصال الشر في محاربة إمبراطورية الشر مع ريغان، والأكيد أنها ليست النهاية بل هذه هي البداية لسياسة أحادية الطرف ترتكز على التعبئة الدائمة والحرب الوقائية والتي ظهرت فصولها بوضوح غداة انهيار الإتحاد السوفياتي وانفراد أمريكا بقيادة العالم كما سنرى لاحقا .

إن هذه الرؤية إلى العالم من منطلق القوة هي التي تحكم أمريكا في كل حركاتها؛ بل وتعتبر من الثوابت في الإستراتيجية الأمريكية خصوصا وأنها مدعومة من طرف الحركات الأصولية البروتستانتية، وبالطبع كانت المنطقة العربية إلى جانب الاتحاد السوفياتي مسرحا لاختبار هذه الإستراتيجية ، وبذلك فإنها في تعاملها مع الشرق الأوسط والمنطقة العربية حكمتها خلفية جسدتها رؤية مضبوطة”من خلال مناظير أو وفقا لمعايير موضوعية موحدة أساسها رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لذاتها ولدورها،ولأهدافها ولمصالحها في العالم” . فمع مطلع الخمسينات ارتكزت السياسة الأمريكية عن طريق أداتها الإستراتيجية إسرائيل على ثلاث ركائز أساسية حددت المعالم الكبرى للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط ، ويتجلى ذلك في تحجيم النفوذ السوفياتي ومنعه من النفاذ إلى الشرق الأوسط؛ ثم الاستفراد بالسيطرة على منابع البترول ؛ و كل هدا عن طريق توطيد الوجود الإسرائيلي في الشرق الأوسط كركيزة ثالثة، تمهيدا لاتخاذ إستراتيجية تضمن تلبية المصالح الأمريكية العليا عن طريق إستراتيجية-حافة الهاوية*- و سياسة الاحتواء . و من هدا المنطلق تحركت أمريكا بكل قواها و عبر أداتها الاستراتيجية –إسرائيل- لردع مصر عندما أعلنت عن صفقة الأسلحة السوفياتية في شتنبر 1955 لسد الطريق أمام الاتحاد السوفياتي في النفاد إلى منطقة الشرق الأوسط و ضمان استقلالها.و بذلك فان كافة الاضطرابات التي ستشهدها الساحة العربية الآن مردها الأساسي للمطامع الشيوعية العالمية ..انه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحمل مسؤولية الحفاظ على السلام العالمي .فضلا عن كفالة سيادة و استقلال دول الشرق الأوسط كما أكد إيزنهاور، و بذلك سيكون هذا الخطاب المرتكز الأساسي لمبدأ ايزنهاور الذي أعلنه في يناير 1957 المبني على ثلاث ركائز جوهرية :

* استعداد الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم كل عون اقتصادي تحتاجه دول الشرق الأوسط.
* تخويل الرئيس الأمريكي حق إصدار قرارات تنص على تقديم مساعدات عسكرية عاجلة إلى أي دولة تستشعر خطرا خارجيا يتهدد أمنها .
* استخدام القوات الأمريكية المسلحة لصد أي عدوان على دول الشرق الأوسط خصوصا في حالة وقوعه من قبل دول خاضعة للشيوعية العالمية .

ومع توالي الأحداث بدأت القومية العربيةتتوسع، و اشتعلت المشاعر القومية الأمر الذي أدى إلى قيام الوحدة بين مصر و سوريا في فبراير1958 التي أدى صداها إلى خلق اضطرابات داخلية في لبنان في ماي من نفس السنة، أعقبها سقوط النظام الملكي بالعراق على يد الثوار الأحرار في يوليوز 1958 مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرسال قواة المارينز للشواطئ اللبنانية؛ الشيء الذي جعلها تبدو أمام الدول العربية في مظهر الدولة المعتدية إذ لم تمضي إلا سنين حتى تفجر الحقد باندلاع حرب يونيو 1967 التي تكبدت فيها الجيوش العربية خسارة فاضحة. ومما لاشك فيه أن طعم انتصار إسرائيل و احتلالها لبقية أرض فلسطين و بخاصة القدس إضافة إلى أراضي عربية أخرى شكل تأكيدا على أن خطة الرب تسير في مسارها الصحيح و أنها الآن في حلقتها الأخيرة ، و أن نهاية التاريخ أصبحت قريبة مما يجعل الكثيرين من المسيحيين الأمريكيين ينظرون إلى الشرق الأوسط و الصراع الدائر فيه كانعكاس للأحدات التي يصورها التراث التوراتي؛ ففلسطينيو و عرب ق 20 يصبحون الفلستيين الذين حارب بطلهم جوليات الملك داوود . و الحقيقة التي لا جدال فيها هو أن هذا الانتصار لم يكن ليتحقق لولا الدعم العسكري الأمريكي، وقد علقت جريدة هيرالد ثريبيون الأمريكية على هذا الدعم بقولها:”إن الحكومة الأمريكية مهتمة بان تمتلك إسرائيل مركزا دفاعيا قويا ضد جيرانها ذوي النوايا العدوانية ” .

و في خضم هذه الأحداث استطاعت إدارة نيكسون أن تمتص هذا التوتر و التقليص من حدة الأزمة ، و ذلك بإتباع إستراتيجية تتضمن العمل على تجميد الصراع العربي الإسرائيلي و الإبقاء على الأرض محتلة ، مع الاستمرار في دعم و تقوية إسرائيل بما يجعل من غير الممكن هزيمتها من قبل جيرانها العرب و لو مجتمعين .إضافة إلى هذا تسرب بعض الشعور بالارتياح و لو نسبيا إلى نفسية المسؤولين الأمريكيين تجاه قضية الشرق الأوسط لعدم وجود ما يدعو إلى الحيرة و القلق بسبب اتفاقها –أي أمريكا – مع الاتحاد السوفياتي على تهدئة التوتر في المنطقة و فرض ما سموه –الاسترخاء العسكري – على الأوضاع الشرق الأوسطية . مقابل سحب أمريكا يدها من مأزق الفيتنام. غير أن أحداث أكتوبر 1973 أرجعت المنطقة من جديد إلى التأزم وفرضت على الإدارة الأمريكية وضعا طارئا جديدا ، و كان تقدير كيسنجر أنداك انه لا ينبغي السماح تحت أي ظرف بهزيمة إسرائيل ولو أدى الأمر إلى تدخل عسكري أمريكي ، وفي ذلك الوقت قال كيسنجر كلمته المشهورة “لن نسمح للسلاح السوفياتي لأن يهزم السلاح الأمريكي” .

وبذلك كشفت الحرب على أن مستقبل إسرائيل المستندة إلى القوة العسكرية ينذر بمخاطر كبيرة ، ويطرح احتمال عودة المنطقة إلى إطلاق النار من جديد في أي لحظة .وبذلك كان لابد من التفكير من داخل المأزق في مسار آخر في السياسة الأمريكية بالمنطقة؛ بتدشين مسيرة السلام ابتداء بمؤتمر “ميناهاوس ” تحت إشراف الأمم المتحدة في 1977.ومع بداية هذه المرحلة تمسكت أمريكا لوحدها باحتكار كل جهود التسوية في المنطقة .التي توجتها بعقد اتفاقية “كامب ديفيد”بين إسرائيل ومصر تحت إشراف هذه المرة إدارة كارتر وليس الأمم المتحدة.غير أن مخطط إسرائيل الرامي إلى الإستيلاء على جنوب لبنان والقضاء على الوجود الفعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية بلبنان دفعها إلى ارتكاب مجزرة صبرا وشتيلا تحت قيادة شارون سنة 1982 ، أمام صمت عالمي رهيب وتأييد أمريكي سافر؛ حيث أعلن ألكسندر هيج وزير خارجية أمريكا أنداك تأييد بلاده لكافة المخططات الإسرائيلية في لبنان باعتبار أن المصلحة واحدة .وللإشارة فإن هذه الحرب شارك فيها اليهود الأمريكيون كمتطوعين في الجيش الإسرائيلي بعد إذن من الإدارة الأمريكية؛ وفي هذا يقول الكاتب اليهودي شاحاك :إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بامتياز يسمح لمواطنيها الأمريكيين أن يقاتلوا معها في حروبها .وأكيد أن هذه الحرب ستلقي بظلالها على الدول المجاورة كما عبر ريغان ،كإيران وروسيا وليبيا باعتبارها دول مساندة للإرهاب،وبذلك قامت البحرية الأمريكية بإسقاط طائرتين ليبيتين ، وقصف مقر الرئيس القدافي ،إضافة إلى تزويد العراق بالسلاح في حربه مع إيران،وكما يقول جيمس ميلز مسؤول حكومي سابق في إدارة ريغان “معظم قرارات ريغان السياسية كانت مبنية على تفسيراته اللفظية للنبوءات التوراتية ،ولقد قاد هذا الأمر ريغان إلى الاعتقاد بأنه لايوجد سبب للاضطراب بشأن الدين الوطني ،إذا كان الله سيطبق على العالم كله “فقد كان لأمريكا كما يقول-فرانك كيرمود–رئيس لمدة ثمان سنوات –ريغان-آمن بأنه يعيش في مرحلة نهاية الزمن،وتمنى أن تأتي النهاية خلال رئاسته” .

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.