صيغ التمويل المؤسسي للأوقاف

صيغ التمويل المؤسسي للأوقاف – المبحث الرابع:
استعرضنا في المبحث السابق الصيغ القديمة في تمويل الأوقاف، وسندرس في المبحث الحالي و الذي يليه الصيغ الحديثة، ومن البديهي أن تكون الصيغ الجديدة في التمويل مبنية على المصادر الفقهية نفسها، فهي تدور حول فقه الوقف، وما يمكن أن ينطبق على أرض الوقف أو عقاره من عقود تمويله.
والصيغ المعاصرة لا تخرج في حقيقتها عن المبادئ الثلاثة نفسها التي اعتمدت عليها صيغ التمويل في البنوك الإسلامية من بدء وجودها في العقد السادس من القرن العشرين وهي مبادئ المشاركة والبيع والإجارة.

وهكذا فإن صيغ التمويل المؤسسي يمكن التمييز في تصنيفها بين احتفاظ الناظر بإدارة المشروع بعد اكتماله أو تسليم الإدارة للطرف الممول، أو اشتراك الطرفين معا بالإدارة.
فالتمويل من المؤسسات والبنوك الإسلامية يمكن أن يتخذ إذن واحدة من أربع صيغ هي: المرابحة، الاستصناع، وإجارة البناء للمأذون به على أرض الوقف، والمضاربة بالنقد الناض، وذلك إذا ما أراد ناظر الوقف أن يحتفظ بإدارة المشروع بكامله هي صيغة شركة الملك، كما توجد صيغتان “تكون فيهما الإدارة من قبل الممول وحده، هما المشاركة بالإنتاج والتحكير وهكذا سنقسم هذا المبحث إلى ثلاث مطالب سنتناول في الأول صيغ التمويل مع ترك الإدارة للناظر وفي مطلب ثاني تحديد المدير بالإنفاق بين الناظر والممول على أن نتناول في مطلب ثالث وأخيرا ترك الإدارة للمؤسسة الممولة.

المطلب الأول: صيغ التمويل مع ترك الإدارة للناظر:

إن أول صيغتين يحتفظ فيهما الناظر بالإدارة هما صيغة المرابحة وصيغة الاستصناع، وقد ذكرناهما في مقدمة هذا المبحث، وكلاهما تنتهيان بمديونية الوقف للممول، ويكون المشروع بكامله للأوقاف، يديره الناظر حسب شروط الوقف.
أما الصيغة الثالثة فهي صورة من الإجارة، حيث يمكن فيها احتفاظ ناظر الوقف بكامل السلطة الإدارية على المشروع الوقفي بكامله، وتقوم هذه الصورة بأن يأذن الناظر للممول بالبناء على الأرض (ولا يكون لهذا الإذن مقابل مالي ظاهر).
ويستأجر الناظر البناء ليستعمله لغرض الوقف، كأن يكون البناء لمستشفى على أرض وقفية مخصصة لهذا الاستعمال أو دار أيتام أو أي وقف مباشر آخر، أو أن يستأجر الناظر المبنى ليديره إدارة استثمارية، بحيث يكون المبنى مهيأ لذلك، كأن يكون مجمعا سكنيا على أرض لوقف استثماري مثلا، فيقوم الناظر بتأجير الشقق فيه للتكسب من فرق الأجرتين، حيث تشمل أجرة الشقة حصتها من أجرة البناء وحصتها من أجرة الأرض معا.
ويمكن أن يطور عقد الإجارة بحيث يكون منتهيا بالتمليك، بيعا أو هبة أو تركا مجردا لأن الأرض مملوكة للأوقاف( ) فإذا كانت صياغة الإذن بالبناء موقوفة بزمن وتركه صاحبه دون أن يهدمه عند انتهاء مدة الإذن ينتقل البناء حكما لمالك الأرض.
وتحدد الأقساط الدورية للإجارة بحيث تعوض الممول عن رأس المال المستثمر مع الفائض الربحي المرغوب فيه، ويسدد ناظر الوقف الأجرة الدورية من عائدات الوقف إن كان استثماريا، أو من إرادات المدرسة الوقفية أو المستشفى الوقفي مثلا إن كان وقفا مباشرا، تلك الإرادات التي تتأتى لمال الوقف من مصادر أخرى يفترض أن يحصل عليها الوقف من أجل نفقاته الاعتيادية، أي أن القسط الإجاري يعامل –بالنسبة للوقف المباشر- معاملة النفقات اللازمة، لإدارة الغرض الوقفي، أيا كان المصدر الذي يقدمها. كان يكون من الحكومة أو من تبرعات الأفراد أو من إيراد وقف آخر مخصص للإنفاق على مشروع الوقف الخيري، الذي تتم تنميتـه.

وللسائل أن يتساءل، فيما إذا كان يصح بناء مسجد بهذه الطريقة فيكون المسجد مستأجرا خلال مدة الإذن بالبناء، لأنه مملوك من قبل الممول( )، إلى أن ينتقل ليصبح ملكا للوقف نفسه بعد انقضاء الإذن أو سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها، وفي اعتقادنا أن تملك الممول للمسجد خلال هذه الفترة ينبغي أن لا تنشأ عنه أية مشكلة فقيهة مما يثار حول الصلاة في المسجد المملوك للخواص لعدة أسباب هي:
1-كون الأرض نفسها وقفية والصلاة عليها أولا.
2-أن البناء آيل لملك الوقف.
3-إدارة البناء بيد ناظر الوقف وليست بيد مالك البناء.
4-أن منفعة البناء مملوكة للوقف بعلم الإجارة المعقودة بين الناظر والممول.
فليس هذا النوع من التملك مماثلا للملك الخاص للمسجد الذي تحدث عنه بعض الفقهاء.
أما الصيغة الرابعة التي تسمح لناظر الوقف بالاحتفاظ بالإدارة كاملة في يده فهي صيغة المضاربة بالمال الناض. وفيها يعلن الناظر باسم الوقف، نفسه مضاربا يتقبل النقود مضاربة من المؤسسة التمويلية بحصة من الربح الصافي يتفقان عليها، ثم يقيم البناء ويستثمره لحساب المضاربة، ولا يذكر العقد أن المضارب يساهم بأرض الوقف في رأسمال المضاربة، بل يلحظ ذلك عند تحديد حصته في الربح بحيث تكون عالية تعوضه عن المساهمة بالأرض( ). ثم يشتري الناظر البناء لصالح الوقف بالتدريج أو دفعة واحدة، حسب الشروط الشرعية المعروفة، مستعملا في ذلك حصيلة حصته من الربح الصافي كليا أو جزئيا حسب الحال.

المطلب الثاني: تحديد المدير بالاتفاق بين الناظر والممول:

من المعروف أن شركة الملك يشترك فيها طرفان ، اختيارا منهما أو بسبب موافقة خارجة عنهما، في ملك معين، وأن كل طرف يبقى مستقلا فيملكه استغلالا تاما عن الآخر، ويكون الانتفاع بالمملوك بقسمته بينهما وبالمهايأة إذا لم يكن المال قابلا للقسمة، أو لم يريا ذلك واكتفيا بقسمة زمن الانتفاع بينهما بنسبة ملكهما، ومن المعروف في شركة الملك أن كمل شريك يدير حصته مستقلا عن الآخر، على أنه لو قام أحدهما بعمل يتعلق بملك الآخر، فيكون إما متبرعا بوقته وما أنفقه، أو يكون مأذونا له يمكن أن يستحق أجر المثل.
ولما كانت أرض الوقف مما لا يصح بيعها أو إدخالها رأسمال في شركة عقد لأن ذلك يقتضي تملك كل شريك لحصة مشاعة من مال الشركة بنسبة حصته في الشركة، فإن شركة الملك تقدم لنا صيغة لتمويل التنمية تتناسب جدا مع طبيعة الوقف، لأنها تحافظ على استقلال الوقف في ملكه متميزا عما يملكه الممول.
وفي صيغة شركة الملك يمكن فيها أن تكون الإجارة بين ناظر الوقف أو بيد الممول حسب ما يتفقان عليه فيما بينهما، لأن أيا من الشريكين في شركة الملك يمكن أن يفوض الآخر بالإدارة بأجر يدفعه له.
التمويل المؤسسي للأوقافوتتصف الصيغة التمويلية القائمة على شركة الملك بأن يقوم الممول بالبناء على الأرض بإذن ناظر الوقف، أو قد يفوض الناظر بذلك فيقدم المال له، ويبني الناظر وكالة عن الممول، ويشترط أن يكون البناء ملكا للممول. ويتفقا على اقتسام الإنتاج، أي الإجمالي حسب نسبة يلحظ عند تحديدها إذ تعكس نسبة قيمة مال كل منهما إلى قيمة كامل المشروع، أي البناء وأرضه معا، مع تخصيص حصة معينة للإدارة، ويمكن في هذه الصيغة أن يكون المدير من طرفي العقد بالاتفاق بينهما، فيكون المدير، من الناحية الفقهية، مالكا يدير ملك نفسه، بالنسبة لحصته، في المشروع، وأجيرا يدير ملك غيره بأجر محدد، أو مضاربا يدير الأصول الثابتة لغيره بنسبة من العائد الإجمالي لها( ).
وبما أن الممول المؤسسي يرغب –عادة- بيع هذا الملك وعدم الاحتفاظ الدائم به، بخلاف ناظر الوقف فيمكن الاتفاق على بيعه للوقف دفعة واحدة في موعد مستقبلي، على أقساط، فيذكر العقد عندئذ تناقص حصة الممول من الإنتاج بتناقص ملك الممول.

ويمكن الاتفاق على السعر عند من تقبل الوعد الملزم، أو ن يتوعدا على البيع بسعر يحددانه عند عقد البيع حسب عوامل سوقية يتفقان عليها، نحو عشرة أمثال العائد السنوي الأخير، الذي يسبق تاريخ عقد البيع مثلا.
ومن الواضح أن شركة الملك يمكن فيها اقتسام الأرباح الصافية أيضا، وليس فقط العائد الإجمالي، بحيث تؤخذ بعين الاعتبار عناصر النفقات العادية والصيانة والمخصصات والاستهلاكات وغيرها من الأعباء على أن تحمل الأعباء المتعلقة بما يملكه كل طرف على إيراد ذلك الطرف، من ذلك مثلا أن تحمل الاستهلاكات على الممول لأن الأرض لا تستهلك، وهكذا نجد أن هذه الصيغة لا تقتصر على إمكانية توزيع العائد الإجمالي فقط وقد تنشأ عند اتباع أسلوب توزيع العائد الصافي الذي لا يعرف عادة، إلا في آخر الدورة المحاسبية، في حين أن العائد الإجمالي يعرف عند القيام بالعمل، فليس فيه جهالة.
ونرى أنه يمكن حل هذه المشكلة باتخاذ واحد من حلول ثلاثة:
1-أن تحدد أجرة كل فترة مالية على أساس صافي عائد الفترة السابقة – التي فد صارت معلومة عند بدء الفترة الجديدة.
2-أو أن تحدد الأجرة بنسبة من العائد الإجمالي.
3-أو اللجوء إلى التحديد المباشر بمبلغ معين، ومن الواضح أن ناظر الوقف سيخصص جزءا من حصة الوقف من العائد لسداد ثمن البيع حسب برنامج معين.
ولا شك أن تختلف نسبة توزيع الربح الصافي عن نسبة توزيع إجمالي الإيراد فتكون نسبة حصة الوقف من الربح الصافي أكبر من نسبة هذه الحصة من الإجمالي، إذا أريد أن يكون المبلغ المتحقق واحدا في الحالتين، وذلك لأن كثيرا من عناصر النفقة والأعباء تتعلق –في حقيقتها- بالبناء دون الأرض .

المطلب الثالث: ترك الإدارة للمؤسسة الممولة.

ومن جهة أخرى هنالك صيغتان تمويليتان تصلحان للممول المؤسسي، ولكنهما تضعان إدارة الوقف حتى سداد التمويل وعوائده، بيد الممول نفسه، لا بيد ناظر الوقف، إلا إذا وكل الأول الآخر، وأول هاتين الصيغتين هي ما رغب بعض الدارسين أن يسميها صيغة المضاربة بالأصول الثابتة وهي هنا (أرض) ( ). وهذه الصيغة هي أقرب إلى المزارعة منها إلى المضاربة المألوفة، لذلك ينبغي أن يوزع فيها العائد الإجمالي، وليس الصافي، وهذه الصيغة من التمويل يبدو أن الأفضل أن نميزها عن المضاربة فلنسميها “صيغة المشاركة بالإنتاج”.
فالمشاركة بالإنتاج هي صيغة من تنظيم الاستثمار والتمويل يقدم فيها أحد الطرفين –على الأقل- أصولا ثابتة- ويقدم الآخر العمل، وقد يقدم مع العمل أصولا ثابتة أو متداولة أو نقودا أو كل ذلك معا.
وهي مثل الزراعة والتي يمكن فيها تقديم الأرض من طرف والعمل من طرف آخر، أما الأصول الثابتة الأخرى (البقر) والمتداولة (البذر) والنقود (لشراء البذر والسماد مثلا) فيمكن أن يقدمها أي من الطرفين.
ففي المشاركة بالإنتاج، يقدم الوقف الأرض ويقدم الممول البناء والإدارة، ويقسم الوقف الإنتاج الإجمالي، ويتفقان على انتقال البناء إلى الوقف بيعا كما في انتهاء شركة الملك، لأن الوقف لا يملك منه شيئا.

وتختلف المشاركة بالإنتاج عن صيغة الملك في أن المشاركة بالإنتاج يكون العامل فيها غير صاحب الأرض، لأن قياسها على المزارعة، مما يعني أن يديرها الممول لا صاحب الأرض وأنها لا يصلح فيها توزيع الربح الصافي، لأنها مثل المزارعة في ذلك.
أما الصيغة التمويلية الثانية التي يدير فيها الممول المشروع فهي صيغة الحكر المعروفة أو الإجارة الطويلة، فيستأجر الممول أرض الوقف، ويقيم البناء ويستثمره، ويدفع للناظر الأجرة المتفق عليها، ويستعمل الناظر جزءا من الأجرة في شراء البناء كما ذكرنا سابقا.
الوقف ودوره في تنمية المجتمع
الفصل الثالث: تنمية الوقف وتمويله

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.