المبادئ العامة لتنمية أموال الأوقاف

الوقف ودوره في تنمية المجتمع
الفصل الثالث: تنمية الوقف وتمويله
إن استثمار أموال الأوقاف، بمعنى استغلالها في وجوه الاستثمار المتعددة التي حبست من أجل استغلالها فيها مع المحافظة على أصولها أمر واجب، ولولا هذا الوجوب لما بقيت الأوقاف نفسها، فالأوقاف إنما وجدت لتحقيق أغراضها، فإن وجودها نفسه يصبح غير ذي معنى.
إن وضع خطة تفصيلية لإعمار أموال الأوقاف الموجودة في البلدان والمجتمعات الإسلامية ينبغي أن يكون من الأولويات المهمة في سعي الأمة للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية بقدر ما ينبغي أن نضع الأطر القانونية والإدارية التي تساعد على ذلك وتحث عليه.
وإننا في هذا الفصل نريد أن نؤكد أهمية استثمار واستغلال أموال الأوقاف الإسلامية، فندرس معايير تحقيق أهدافها، ثم نميز بين زيادة رأسمال الوقف نفسه وبين تنميته، ثم ندرس الصيغ التمويلية التي تساعد في ذلك، ولتحقيق هذا الهدف فقد قسمنا هذا الفص”ل إلى أربعة مباحث سندرس في المبحث الأول: المبادئ العامة لتنمية أموال الأوقاف وأهميتها بالنسبة لاستمرار مساهمة الأوقاف في التنمية والخدمات المجتمعية أما المبحث الثاني فندرس فيه معايير تحقيق أهداف الأوقاف أما المبحث الثالث فقد خصصناه لدراسة الصيغ التقليدية في تمويل الوقف، أما المبحث الرابع فندرس فيه بعض الصيغ الحديثة التي تصلح لتمويل تنمية الأوقاف.

المبحث الأول: المبادئ العامة لتنمية أموال الأوقاف

يقصد بالتنمية هنا زيادة حجم الأموال المستغلة أو الاستثمارية أو الرأسمالية للوقف، كان يكون الوقف أرضا سكنية معطلة لابد لاستثمارها من البناء عليها فيحتاج ذلك البناء إلى إضافة استثمارية جديدة، تضاف إلى رأسمال الوقف نفسه، أو تكون الأرض ملحية مثلا فتحتاج إلى عمارة واستصلاح قبل التمكن من زارعتها مما يتطلب استثمارات جديدة، وهذا النوع من النشاط التنموي يتميز بأنه يزيد في القيمة الرأسمالية لمال الوقف وفي طاقته الإنتاجية، وهو في الغالب طويل الأجل أو متوسطه على الأقل.
لذلك سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين سنتناول في الأول أهمية تنمية أموال الأوقاف على أن نتناول في الثاني النص على التنمية في قوانين الأوقاف.

المطلب الأول: أهمية تنمية أموال الأوقاف

إن بناء ما تهدم من الأملاك الوقفية، وإعمار ما احتاج إلى عمارة وإعادة استصلاح من أراضيه مسألة قديمة قـدم الوقف نفسه، ولم يغفـل الفقهاء الحديث في دراستهم، كما لم يقصروا بالتفكير بأساليب تمـويل إعادة هذه الأملاك الوقفية إلى مجال الاستغلال والاستثمار حتى يمكنها أن تؤدي الدور الذي رسمه لها الوقف، وقد اعتبروا إعمار ما تهدم وإصلاح ما أفسدته عوادي الدهر من واجب الناظر والمتولي، وإن كان يحتاج في ذلك إلى إذن من القاضي في كثير من الأحيان، وبخـاصة إذا كان ذلك مما يرتب على الوقف ديونا لابد من سدادها في المستقبل، أو ينشئ التزامات طويلة الأجل تؤثر على حقوق الموقوف عليهم أو على أغراض الـوقف.
ولكننا لو أمعنا النظر في فقه الوقف لوجدنا الفقهاء قد تحدثوا عن صورتين ( ) مهمتين من صور تنمية مال الوقف، أولهما حفر بئر في أرض الوقف الزراعية من أجل التمكين من زراعتها، أو لزيادة مردودها بتحويلها من أرض تزرع بعلا إلى أرض مسقية، ولا شك أن الوسائل التي كانت متوفرة لحفر الآبار لم تكن لتجعل تكلفة حفر البئر عالية بحيث لا يمكن تغطيتها في العادة من إيرادات السنة نفسها.
ولكن هذه العملية هي عملية تنموية دون أدنى شك، لأنها تزيد في إنتاجية الأرض وقيمتها الرأسمالية، حتى في تلك العصور الماضية بالرغم من عدم ارتفاع تكاليفها في العادة.
أما الصورة الثانية فهي إضافة وقف جديد إلى مال وقف سابق، ومن الواضح أن إضافة مال وقفي جديد إلى وقف قائم موجود لتوسيعه أو زيادة طاقته على إنتاج الخدمات والمنافع والسلع التي يهدف إليها الوقف الأول إنما هو تنمية للوقف بزيادة رأسماله، شأنه في ذلك شأن الشركات التي تزيد رأسمالها في عالمنا المعاصر.
وعند إمعان النظر في أسباب عدم ذكر زيادة رأسمال الوقف من إيراداته في الدراسات الفقهية القديمة، يبدو للباحث المدقق لأنه كان مما يقيد النظر الفقهي في مسألة تخصيص جزء من إيراد الوقف للزيادة في رأسماله وجود مبدأ أساسي من مبادئ الوقف، أجمع على اعتباره الفقهاء وهو وجوب احترام شروط الواقف، لأن الزيادة الرأسمالية في مال الوقف قلما تخلو من تغيير صريح أو ضمني في تلك الشروط، أو في طريقة تحقيقها، وبخاصة إذا ما لاحظنا أنه لم تحدث تغيرات كثيرة في تكنولوجيا البناء خلال عصور تاريخية طويلة( ).
هي نفس الفترة الذهبية لنمو الدراسات الفقهية، وإن ما يلفت النظر أنه على الرغم مما يحدثنا به المؤرخون من اتساع بعض الأمصار، نحو الكوفة، ودمشق وبغداد والقاهرة، والكثافة السكانية العالية التي حصلت في كثير منها، مما أدى إلى ارتفاع واضح في أسعار الأراضي والعقارات إضافة إلى كثير من السلع الأخرى، فإن الفقه الإسلامي بقي متمسكا بشروط الواقف بشكل دقيق، ولم يحدثنا عن تنمية عقار الوقف بزيادة مبانيه فوق ما حبسه الواقف، من أجل وزيادة منفعة الموقوف عليهم ورغبة في تنمية أصل أموال الوقف وزيادة موجوداته( ).
ومن الملاحظ في هذا السبيل أن هناك عاملين هامين حدثا في البلدان الإسلامية خلال القرن العشرين يمكن اعتبارهما مسؤولين عن بروز مسألة تنمية أموال الوقف إلى السطح واحتلالها أهمية لم يشاهد مثلها في الماضي و هذان العاملان هما:
1-التقدم الكبير في تكنولوجيا البناء.
2-زيادة التركيز السكاني في الأمصار أو المدن الكبيرة.
أما العامل الأول فقد أدى إلى استغلال أحسن للمساحات الصغيرة من الأراضي السكنية في المدن خاصة، بأن مكن من التعالي أو التطاول غير المسبوق في البنيان.
والعامل الثاني زاد الطلب على المباني السكنية والتجارية مما عزز من أهمية القطع الصغيرة من الأراضي المحدودة في هذه المدن والحواضر، كل ذلك أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار الأراضي عموما، وأراضي المدن وما حولها خصوصا حيث توجد معظم أملاك الأوقاف .
فهل يعقل في مثل هذه الأحوال أن يترك مبنى وقفي على حاله من الصغر وقلة الانتفاع به، في وسط مكة المكرمة وإسطنبول مثلا، في وقت صارت فيه قيمة الأرض وحدها تعادل مئات، بل آلاف ما كانت عليه من قبل، وارتفعت المباني من حوله إلى عشرات الطبقات علوا في الفضاء، فوق الأرض كما نزلت طبقات في باطن الأرض؟ هذه المفارقة الكبيرة استدعت ولا شك المطالبة على كل صعيد بضرورة تنمية هذه الأملاك وبخاصة أن هذه التنمية تستطيع أن تضاعف المنافع أو العوائد للغرض الموقوفة عليه أضعافا كثيرة على الرغم مما تدخله من تغيير في شكل المبنى الموقوف ، مدرسة كان أو سكنا أو غير ذلك( ).
ولكننا نلاحظ أيضا أن هناك عاملا ثالثا ينبغي أن نأخذه في الحسبان وهو أن فترة السبات الطويل للأمة الإسلامية قد رافقها ركود اقتصادي عام، سواء أكان ذلك في أملاك الأوقاف ، أو في أملاك الدولة، أو في أملاك القطاع الخاص، فتوزعت الزراعة وأهمل كثير من الأراضي الزراعية، وقفية كانت أم غير وقفية، و أن العودة إلى استثمار هذه الأملاك واستغلالها تتطلب رأسمالا جديدا لابد منه، ينبغي العودة إلى استثمار هذه الأملاك واستغلالها تتطلب رأسمالا جديدا لابد منه، ينبغي ضخه في تلك الأملاك حتى يمكن الإفادة منها في أغراضها الوقفية نفسها.
لذلك فإن مسألة تنمية أملاك الأوقاف ينبغي أن ينظر إليها على أنها قضية جديدة حديثة سواء كانت حداثتها من حيث العوامل التي أدت إليها، أم من حيث أهميتها وحجمها في الواقع الاجتماعي و الاقتصادي المعاصر وإن كانت قديمة بطبيعتها وأصولها وجذورها.

المطلب الثاني: النص على التنمية في قوانين الأوقاف :

ذكرنا فيما سبق بعض وجوه التشابه بين الوقف وشركات المساهمة وينبغي أن نلاحظ أن بعض التنظيمات الاقتصادية والقانونية الحديثة، وبشكل خاص شركة المساهمة، تكون في العادة احتياطات للتوسع والنماء، ترصدها من عائداتها، بصورة يلزمها بها القانون أحيانا،ـ وبصورة طوعية اختيارية أحيانا أخرى( ).
فلماذا لا نلحظ مثل هذه الفكرة في الأوقاف الجديدة، فتهتم الجهات المعنية بتشجيع إنشاء أوقاف جديدة نماذج من الوثائق الوقفية التي تتضمن شرطا يشترطه الواقف للنماء، بان تحجز نسبة من العائدات الصافية للمال الموقوف لتزيد في أصله، فيكبر رأسمال الوقف مع الزمن، وتتزايد منافعه وتنمو، ويتزايد بذلك أجر الواقف، بإذن الله تعالى- بجريان صدقته وتوسعها وعموم خيراتها.
على أن نظام الأوقاف الإسلامية المعاصر ينبغي أن يقتبس من النظم التجارية أكثر مما ذكرنا، وذلك بان ينص على ضرورة تكوين احتياطي استثماري لكل وقف، استثماريا كان أم مباشر ويكون الهدف من هذا الاحتياطي الإجباري زيادة رأسمال الوقف وتوسيع قدرته الإنتاجية ولقد افترضنا في الفصل الثاني من هذا البحث ضرورة النص على تنمية أموال الأوقاف الاستثمارية والمباشرة على السواء ( )، بحيث يحجز 10 % من الإرادات الصافية لكل وقف استثماري جديد لتضاف إلى رأسماله.
أما الأوقاف المباشرة فينبغي فيها أيضا النص على احتجاز 10 % من الإرادات الموقوفة عليها والتبرعات التي تقدم لها لتخصص للاستثمارات من اجل التوسع المستقبلي في تنمية أموال الوقف وزيادة قدرته على تقديم الخدمات التي وضعها له الواقف.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.