دور الوقف في مجال الدعوة الإسلامية

الوقف ودوره في تنمية المجتمع
الفصل الثاني: دور الوقف في تنمية المجتمع
تمـهيـد:
إن الوقف يعد من مآثر الإسلام ومفاخره للإصلاح حياة المجتمع، فهو مصدر خير للمجتمع الإسلامي وباعث لنشر الدعوة الإسلامية ولقد أدت الأوقاف الإسلامية الخيرية دورا مهما في نهضة التعليم ، ونمو المجتمع ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.
ولقد كان الوقف من أنجع الوسائل في علاج مشكلة الفقر حيث إن المسلمين تتبعوا مواضع الحاجات مهما دقت وخفيت فوقفوا لها، حتى أنهم عينوا أوقافا لعلاج الحيوانات المريضة وأخرى للإطعام الكلاب الضالة.
قال ابن بطوطة عن مدينة دمشق: “إن أنواع أوقافها ومصارفها لا تحصر لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى، ومنها أوقاف للأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم…”
ولقد كان الوقف من أهم المؤسسات التي كان لها دورها المؤثر في التطور والنمو الاقتصادي في مختلف عصور الإسلام، ويتجلى ذلك بالنسبة للمغرب في بعض الجهود المبذولة في مختلف الميادين في عهد المولى محمد بن عبد الله( ).
ولم يقتصر تأثير الوقف الإسلامي على المسجد وحده، فقد أوقف المسلمون العديد من المؤسسات الاقتصادية و الاجتماعية من أجل تطوير مجتمعاتهم، فأنشأوا المشافئ والملاجئ، والمدارس والمكتبات وغيرها، وجعلوها أوقافا لعامة المسلمين.
هذا وقد عدد أحد الباحثين ثلاثين نوعا من أنواع المؤسسات الخيرية التي تم إنشاؤها و الإنفاق عليها من ريع الأموال الموقوفة( ).
وسوف نحاول أن نتناول بعضا من هذه المؤسسات بشيء من التفصيل من خلال المباحث التالية.

المبحث الأول: دور الوقف في مجال الدعوة الإسلامية

كان للوقف دور هام ومؤثر في نشر الدعوة الإسلامية وتعليم المسلمين أمور دينهم ودنياهم، وذلك من خلال عدة مؤسسات كان في مقدمتها المساجد، ثم الربط والزوايا والخلاوي، والخوانق.

المطلب الأول: المساجد:

اهتم المسلمون بأمر المساجد منذ فجر الإسلام، وأولوها عنايتهم ورعايتهم، لأن لها أثرا كبيرا في توجيه المجتمع، ونشر تعاليم الدين الإسلامي.
فالمسجد في نظر الإسلام ليس مكانا للعبادة فقط، وإنما بالإضافة إلى ذلك مكانا تنطلق منه الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة فهو ينهض برسالة التثقيف والتنوير ونشر الوعي الديني السليم.
وقد ظل المسجد قورنا طويلة يؤدي هذه الرسالة بكفاءة واقتدار، كما كان للوقف الخيري دور فاعل في دعم هذه الرسالة واستمرارها( ).
وقد كان المسجد هو محور سياسة الوقف في هذا المجال سواء من حيث إنشائه، أو الصرف على مصالحه ومهماته، وعمارته أو من حيث ترتيب من يقومون بإمامة الناس في الصلاة، والخطابة أو الآذان، والاهتمام بنظافة المسجد، وتـوفير المياه اللازمة له، وكـذلك الإضاءة أو من حيث إلحـاق منشـآت أخرى بالمسجد، كدور المناسبات أو المؤسسات التي تؤدي بعض الخدمات وخاصة في مجال التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
وقد نـال الوقف على إنشاء المسـاجد والإنفاق عليها، اهتمـام المسلمين وعنايتهم منذ عهد النبوة، حيث أن أول وقف في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي  حين قدومه إلى المدينة، ثم المسجد النبوي الذي بناه النبي  ففي السنة الأولى من الهجرة، ثم انتشار بناء المساجد والوقف عليها في عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهد بني أمية وبني عباس.
وممن اشتهر أيضا بالوقف على المساجد الفاطميون عندما بنوا الجامع الأزهر عام 399 هـ وأوقفوا عليه الدور والمزارع، وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين الزنكي في الشام ومصر، كما اتسع نطاق الوقف على المساجد في عهد المماليك والعثمانيين.
فلم تكن المساجد في كل البلاد الإسلامية إلا مساجد وقفية، ثم إن خدماتها، وصيانتها، كانت مما حبس عليها من الأموال الوفيرة لتأدية وظائفها المتعددة، حيث لم تكن المساجد مجرد دور للعبادة فقط، وإنما كانت مراكز للاجتماع الأمة ومبايعة الخلفاء واستقبال الوفود والسفراء، وأماكن للتقاضي وفض الخصومات وغير ذلك من الشؤون العامة( ).
وأكثر ما استخدمت المساجد له، مراكز للتعليم، فكان الرسول  أول من استخدم مسجده، مكانا للدعوة والتعليم والإرشاد، وترسم صحابته، رضوان الله عليهم- خطاة من بعده، فاستمرت حلقات العلم في مسجده بالمدينة المنورة، والمسجد الحرام بمكة المكرمة.
ولقد كان للمسجد دوره العظيم في بناء المسلم عقيدة وعبادة وأخلاقا على امتداد تاريخ الأمة الإسلامية، ذلك أنه بدون المسجد لا يتعلم عامة المسلمون أحكام دينهم، وتنظيم أمور دنياهم، واستبصار الحلال والحرام في حياتهم.
وقد اشتهرت مساجد وجوامع متعددة في العصور الإسلامية، كانت قبلة أنصار العلماء والمتعلمين كان في مقدمتها المسجد النبوي والحرم المكي، ثم كثرت وفاضت بعد ذلك المساجد فكان منها: مسجد الكوفة سنة 14هـ، ومسجد البصرة سنة 17 هـ والمسجد الأموي بدمشق سنة 19 هـ، وفي مصر جامع عمرو بن العاص سنة 21هـ وجامع ابن (طالون) سنة 258هـ، والجامع الأزهر سنة 359هـ.
وانتشرت في هذه المساجد الحلقات العلمية، فلم تقتصر على الحلقات المتخصصة بالدراسات الدينية واللغوية، بل تحدتها إلى سواها من معارف ذلك العصر كالطب والفلك والحساب وغيرها( ).
ولقد انتشرت المساجد انتشارا كبيرا في أنحاء العالم الإسلامي، وقام الأعيان والخلفاء والأمراء والأثرياء، طوال قرون مضت، ببناء المساجد ووقف الأعيان التي تدر دخلا للإنفاق عليها، وذلك انطلاقا من دعوة الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وفعل الخير الكامن في النفوس، لتعمير المساجد وبنائها وصيانتها والاهتمام بها، على اعتبار أنها إحدى الصدقات الجارية.

المطلب الثاني: الربط ( ).
الرباط اسم المكان الذي يأوي إليه الجند ويقيمون فيه لحراسة ثغور البلاد الإسلامية من الأعداء، ولم تقتصر المرابطة على المجاهدين بل شملت العلماء والفقهاء والأطباء وغيرهم.
وقد انتشرت الربط في مصر والشام، وفي الجزيرة العربية، وبلاد المغرب العربي التي كانت تطلق عليها عدة أسماء منها: الحصون، والمحارس، ودور المرابطين وبمرور الزمن، ومع إقبال الناس على المرابطة أضافت تلك الربط إلى وظيفتها العسكرية، وظيفة التدريس والتأليف من قبل العلماء و الفقهاء المرابطين فيها.
وقد حظيت هذه الربط، باهتمام المسلمين، فكثر الواقفون عليها، حيث أنها تجمع بين الجهاد في سبيل الله والتعليم والعبادة، وهذه المصارف كانت محل اهتمام المسلمين على مر العصور.
وخلال القرنين الثالث والرابع الهجريين ازدهرت الربط بسبب ما وقف عليها أهل الخيـر من الأمـوال، وقصدها طـلاب العلم من كل مكـان لطلب العلم ومما ساعدهم على ذلك وجود السكن والإعاشة.
وحين استقرت أحوال البلاد الإسلامية تغيرت وظيفة الربط الأساسية لتكون دور علم وتعليم وإلى جانب ذلك مكان العلماء يقومون بالتأليف ويحبسون تصانيفهم على طلابهم ونتيجة لذلك نمت المكتبات وكثرت المخطوطات الموقوفة بتلك الربط ( ).
وقد قـام أهل الخير بـوقف عدد كبير من الربط بمكة المكـرمة، والمدينة المنورة وجدة والطائف وغيرها من مدن العربية السعودية وقد خصص معظمها لإيواء الفقراء والمساكين وطلاب العلم والبعض قد وقف على حجاج بلاد معينة والغرض من ذلك مساعدة الفئات الفقيرة من الإقامة بالقرب من الأماكن المقدسة وتأدية مناسك الحج والعمرة بيسر وسهولة.
ومن أشهر الربط في مكة المكرمة ( ).
رباط ربيع: الذي أنشأه الملك الأفضل ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين في منطقة أجياد عام 594هـ ووقف فيه كتبا كثيرة.
رباط الشرابي: أنشئ في عام 641 هـ وكان موقعه عند باب بني شيبة.
رباط الموقف: أنشأه القاضي الموقف جمال الدين علي بن عبد الوهاب الاسكندري ووقفه على فقراء الغرباء ذوي الحاجة في سنة 604هـ.
رباط قايتباي: أنشأه السلطان فايتباي بجوار مدرسته بالقرب من الحرم المكي.
ومن أشهر الربط في المدينة المنورة( ).
رباط قراء باشى: أسسه عبد الرحمان أفندي عام 1031هـ وكانت فيه مكتبة أضيفت عليها مجموعات وقفية خلال مراحل متعددة.
رباط عثمان بن عفان: وهو من أوقاف المغاربة، وكان يضم مكتبة معظم كتبها في الفقه المالكي على بعضها أسماء مالكيها.
رباط مظهر الفاروقي: أنشئ في عام 1291هـ على يد محمد مظهر الفاروقي.

المطلب الثالث: الزوايا والخلاوي والخوانق:
عرف العالم الإسلامي مؤسسات أخرى تشبه الربط في وظائفها الدينية والتعليمية، وهي الزوايا، والخلاوي، والخوانق، وقد لقيت هي أيضا العناية والرعاية من المهتمين بأعمال البر والموسرين وأهل الخير.
أولا : الزوايا:
وهي الخـائقات، ولكنهـا أصغر من حيث المسـاحة، وتقـام على الطرق، والأماكن الخالية، وقد تقام في أحد أركان المسجد، وكان هناك من يقف عليها، وعلى مرتاديها من الفقراء ويخصص لها شيخ لتدريس القرآن الكريم والعلوم الشرعية.
ثانيا: الخلاوي:
جمع خلوة، وهي مدرسة لتدريس القرآن الكريم والعلوم الشرعية، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنها كانت تقام تحت بناء المسجد، وهو المكان المخصص للصلاة في الشتاء ويقال إنها سميت بذلك لأن المعلم يخلو فيها بطلابه، أي يبتعد به عن الأماكن التي يكثر ارتيادها.

ثالثا: الخانقاة:
وجمعها خانقاهات وخوانق، هي كلمة فارسية بمعنى “البيت” وتبنى على هيئة مسجد بدون مئـذنة، ويحيط بها عـدد من الغـرف مخصصة للإقـامة الفقـراء وعابـري السبيـل.
وما تجدر الإشارة إليه أن كثيرا من النساء المسلمات أنشأت المساجد والخوانق والربط، في مصر والعراق، والحجاز والشام، وكلها متوجة بأسمائهن ومن أشهرها:
أولا: رباط الحاجزية:
الذي أنشأته السيدة فوز جارية علي بن احمد الجرجرائي الوزير بجوار مسجدها بالقاهرة سنة 415هـ وأوقفه على أم الخير الحجازية، وكانت الحجازية واعظة زمانها، وقد تصدرت حلقات الدرس والوعظ في جامع عمر بن العاص، كما عنيت بتثقيف المقيمات بهذا الرباط.
ثانيا: رباط البغدادية:
الذي أمرت بإنشائه السيدة تذكار باي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري بالقاهرة سنة 674هـ وأنزلت به الشيخة الصالحة زينب ابنة البركات المعروفة ببنت البغدادية، ومعها عدد من السيدات الخيرات وأمرت بالصرف عليهن( ).
ثالثا: خانقاه أم أنوك:
أنشأتها السيدة طغاي أم أنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون حوالي سنة 745هـ ورصدت عليها الأوقاف الكثيرة، وقررت لكل جارية من جواريها مرتبا.

قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.