التأصيل التاريخي لظاهرة تبييض الأموال – غسيل الأموال

Money laundering: كما هو معروف ، فإن أي ظاهرة لا يمكن أن تولد من فراغ بل تمر من عدة مراحل؛ الولادة والنشأة والتطور إلى أن تصبح كونية ، ومن ثم تتعرض إلى الاهتمام والعناية بها إذا كانت لا تخالف القوانين والأخلاق الإنسانية والدينية. أما إذا كانت عكس ذلك فإنها تتعرض إلى التجريم، وهذا ما سنطبقه على ظاهرة تبييض الأموال، بداية مع ظهورها في المراحل الأولى إلى مرحلة تجريمها. دون أن ننسى التعرض إليها من وجهة نظر الشريعة الإسلامية . إن جريمة تبييض الأموال يمكن اعتبارها في ظرفية الاقتصاد الحالي جريمة عصر العولمة، هذه الظاهرة التي احتلفت الآراء الفقهية حول زمن ظهورها، فهناك من الفقهاء من يدعي أن ظهور أولى وسائل تبييض الأموال قد […]
تبييض الأموال فقها وتشريعا
فصل تمهيدي : ظاهرة تبييض الأموال، ماهيتها، تأصيلها التاريخي .
المبحث الثاني : التأصيل التاريخي لظاهرة تبييض الأموال
[…] من الفقهاء من يدعي أن ظهور أولى وسائل تبييض الأموال قد تم خلال بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وذلك بصورة غير مباشرة في قضية للتهرب من الضريبة ولم تكن تعرف بهذا الإسم الحالي تبييض الأموال .

وهناك رأي فقهي آخر يرجع تبييض الأموال إلى -خلاف للرأي الأول – العمليات التي قام بها رجال العصابات في الصين القديمة حيث كانت التجارة والقوافل التجارية والأرباح الناتجة عنها تستخدم كطريقة لإخفاء أموال الجريمة في بلاط الحكام، ولإبعاد أعين الشرطة والسلطات عن الوصول إلى حقيقة الثروات لدى بعض الناتجة من العائدات التي كانت تتخذ من التجارة ستارا لإخفاء أموال الجريمة خاصة جرائم السطو والاستيلاء على أموال الفلاحين .

وهناك من يرجع تبييض الأموال إلى ما يقترن بجريمة أعمال القرصنة البحرية التي من أشهرها عمليات القرصنة التي قام بها Henry Every وعصابته في المحيطين الأطلنتي والهندي، حيث استطاع من خلالها جمع أطنان من المجوهرات والذهب ثم قرر التقاعد والاستمتاع بغنائمه ، حيث تسلل إلى قرية بايدفورد إحدى قرى مدينة دنفشير الساحلية وعاش فيها باسم مستعار. وسعى إلى تحريك أمواله من خلال أعمال تجارية ، إلا أن أسلوبه في تبييض الأموال لم يكن موفقا، ورفض المتعاملون معه سداد ما عليهم من ديون له، ولم يستطع إبلاغ الشرطة بذلك خشية أن تكشف أمره وتصادر أمواله فآثر الصمت .

أما تبييض الأموال بوسائله الحدثية الفنية ، وذلك في العصر الحديث فهناك من يربطه بالولايات المتحدة الأمريكية وذلك من خلال الفترة ما بين 1920 و 1930 حيث قامت عصابات الجريمة المنظمة في هذا البلد ، بإخفاء الأموال المتحصلة من أنشطة إجرامية وإضفاء الشرعية عليها بإعادة توظيفها في أنشطة مشروعة . وذلك بإنشاء محال غسيل الملابس الأتوماتيكية من أجل استثمار الأموال التي حصلت عليها بطريقة غير مشروعة من تجارة المخدرات بغية إخفاء أصل هذه الأموال ، حيث كانت تضم الدخل الناشيء عن التجارة غير المشروعة من المخدرات إلى الإيرادات اليومية للمغاسل ، حيث يخضع هذا الدخل مع الإيرادات للضرائب، ولذا قيل أن أرباح التجارة غير المشروعة قد تم غسلها، فكما يتم غسل الملابس غير النظيفة لتصبح صالحة للاستخدام فإن الأموال ذات المصدر الإجرامي تغسل وتصبح نظيفة وبالتالي تصلح للتداول المالي والاقتصادي دون عائق .

وهذه العمليات التي قامت بها تلك الجماعات الإجرامية خلقت مضاربة في الأسهم. مما أدى إلى خسارة المستثمرين الأصليين في السوق الأمريكية خلال تلك الفترة . من هنا أصبح تبييض الأموال مظهرا من مظاهر التحول من الطابع الفردي للجريمة إلى الطابع المنظم، ومن الصفة المحلية لها التي لم تكن تتجاوز حدود الدولة إلى الصفة الدولية التي تتجاوز معها الحدود الوطنية .

وتدعيما الاتجاه السابق لظهور تبييض الأموال في العصر الحديث، هناك رأي فقهي آخر . يرجع عمليات تبييض الأموال إلى سنة 1932 حيث بوشرت بشكل منظم بواسطة شخص يدعى Meyer Lansky كان يمثل حلقة الوصل بين المافيا الأمريكية والمافيا الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية وذلك لتسهيل دخول القوات البحرية للحلفاء لجزيرة صقلية ومن أجل ذلك كان يتم اللجوء إلى البنوك السويسرية من أجل إخراج النقود من الولايات المتحدة الامريكية وإيداعها في بنوك سويسرا من خلال قروض وهمية . وبفضل هذه الأموال المعاد توجيهها استطاع إقامة مدينة لألعاب القمار في منطقة Las vegas الأمريكية.

وتعد فضيحة ” ووترجيت ” التي كانت سببا مباشر في ظهور مصطلح ” تبييض الأموال” لأول مرة على صفحات الجرائد خلال السبعينات – حالة نموذجية لجريمة غسل الأموال، فلم تكن فقط مجرد فضيحة سياسية ، حيث اكتشف المحققون حيازة قليل من الدولارات التي تحمل أرقاما متسلسلة فقاموا بتتبع هذه الأرقام، مما مكنهم من التعرف على مبالغ كبيرة تم غسلها بالتدوير والنقل لتصل إلى لجنة انتخاب الرئيس الأمريكي – المتهم في الفضيحة – كعمل يخالف القانون ، وبالتالي تعتبر أول دعوى قضائية مضمونها تبييض الأموال في هذا البلد وذلك خلال الثمنينيات .

وتعتبر بريطانيا أول دولة تستعمل مصطلح ” تبييض الأموال ” وذلك في قاموسها اللغوي سنة 1973 من خلال ما سبق يتبين أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي عرفت ظهور جريمة تبييض الأموال ، وهذا ما يدعوا إلى التعرف على تطورها التشريعي بخصوص تجريم تبييض الأموال .

الفقرة الأولى: التشريع الأمريكي .

لم يكن الشارع الأمريكي حتى سنة 1986 يجرم أفعال تبييض الأموال على نحو مستقل، أي لم يكن له تشريع مستقل في مدونة معينة ومنعزلة عن القوانين الأخرى، وإنما كانت سلطات الاتهام تواجه عمليات تبييض الأموال بالنصوص التي تجرم أفعال التآمر ومخالفة قيود الأخطار عن التعاملات النقدية التي تزيد على مبالغ معينة والتي نص عليها قانون سرية البنوك غير أن هذه النصوص لم تكن كافية لمواجهة عمليات غسل الأموال. ولا سيما في الحالات التي يتم فيها التعامل في هده الأموال بصورة مشروعة وهو الأمر الذي دعا المشرع الأمريكي إلى التدخل وإقرار قانون الرقابة على تبييض الأموال .

وترجع فكرة تجريم تبييض الأموال إلى تقرير” لجنة الجريمة المنظمة ” والتي شكلها الرئيس الأمريكي لبحث مكافحة الجريمة المنظمة في سنة 1983 والتي قامت تقريرها النهائي في سنة 1986 . وقد خلصت اللجنة إلى أن التشريعات السارية غير كافية لمواجهة تبييض الأموال ، كما أن العقوبات ضئيلة ولا تكفي لردع عمليات في حجم عمليات تبييض الأموال، وأن القانون لا يخول للسلطات الحق في الرقابة اللازمة لمكافحة تبييض الأموال . وقد أقر الكونجرس الأمريكي أول قانون لتجريم تبييض أو غسل الأموال في سنة 1986 وذلك بعنوان ” قانون الرقابة على غسيل الأموال” وهذا القانون يحتوي على مادتين هما 1956 و 1957 وضمنهما الشارع الأمريكي تقنين الولايات المتحدة وخصص لهما الباب الثامن عشر من هذا التقنين . وقد قرر الشارع الامريكي في هذا القانون المسؤولية الجنائية لكل شخص يقوم بتعامل مالي مع عمله أن هذه المبالغ ناتجة من نشاط غير مشروع.

ونظرا للتطورات التي وقعت في مجال تبييض الأموال، وتلبية لتجريم بعض الأفعال والأعمال التي لها صلة بهذه الجريمة – تبييض الأموال – أدخل الشارع الأمريكي عدة تعديلات على قانون تبييض الأموال بموجب عدة تشريعات أهمها :

-قانون مكافحة إساءة استعمال المواد المخدرة سنة 1988 والذي انصب على العلميات السرية المتضمنة غسيلا للمال.

-قانون مكافحة غسيل الأموال لسنة 1992 والذي وسع من تعريف مدلول ” التعامل المالي” وأضاف نصا خاصا بالتآمر .

-قانون قمع غسيل الأموال لسنة 1994 لتعديل بعض أحكام التآمر .

-قانون قمع الإرهاب لسنة 1996 والذي أضاف الإرهاب ضمن الجرائم الأصلية التي تحصل المال منها .

-قانون التأمين الصحي لسنة 1996 والذي أضاف الجرائم الاتحادية الماسة بالرعاية الصحة إلى الأنشطة المتحصل منها المال .

وإذا كان هذا عن التطور التشريعي بخصوص الشارع الأمريكي، والذي اعتمد سياسة التدرج في تجريم الأفعال التي لها علاقة بتبييض أو غسيل الأموال. فماذا عن التشريع الفرنسي ؟

الفقرة الثانية : التشريع الفرنسي :

قبل تدخل الشارع الفرنسي بتجريم غسيل /تبييض الأموال على نحو مباشر لم يكن من السهل الوصول إلى تجريم الأفعال التي لها علاقة بتبييض الأموال، إلا بوجود بعض أركان هذه الجريمة من ” إخفاء أو امتلاك أو نقل أو الوساطة في نقل أشياء متحصلة من جناية أو جنحة مع العلم بذلك ”

وكان أول تشريع يجرم صورا من غسيل الأموال هو قانون 31 دجنبر 1987 الذي جرم من خلاله المشرع الفرنسي غسيل الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات . وبتاريخ 5 يوليوز سنة 1991 انضمت فرنسا إلى ميثاق المجلس الأوروبي المتعلق بمكافحة غسيل الأموال والتحفظ ومصادرة الأموال المتحصلة من جريمة الموقعة في ستراسبورغ سنة 1990 . وفي سنة 1996 أصدر المشرع الفرنسي قانون رقم 26 – 396 الذي نص فيه على تجريم عام يشمل كافة صور غسيل /تبييض الأموال. وبذلك يكون قد عمل على تجريم واسع للأفعال التي تشكل غسيلا للأموال.

وعموما فإن التشريعات المقارنة (الأمريكي /الفرنسي) تكاد تتفق على تجريم تبييض الأموال . فما هو موقف المشرع المغربي ؟

الفقرة الثالثة: التشريع المغربي :

يجزم المشرع المغربي صراحة بعد تبييض الأموال، ولكن القانون الجنائي المغربي يجزم بعض الأفعال المتعلقة بعائدات الجريمة ليس بصفتها تبييضا للأموال ولكن بأوصاف أخرى كإخفاء شيء متحصل عليه من جريمة أو إخفاء مسروق أو حيازة ذوي السوابق في الإجرام المالي للأموال لا تتناسب مع حالتهم الفصول من 570 إلى 572 و 529 من مجموعة القانون الجنائي .

إلا أن الآلة التشريعية تحركت في الآونة الأخيرة لدراسة مشروع قانون يتعلق بتجريم تبييض الأموال من طرف الحكومة ما زال إلى حد الآن لم يتم المصادقة عليه من طرف البرلمان .

وإذا كان هذا عن التطور التاريخي لتبييض الأموال وذلك من خلال المراحل الأولى لظهور المصطلح إلى حين تجريمه وتعرضه للمكافحة من طرف الدول. فماذا عن موقف الإسلام من هذه الظاهرة ظاهرة تبييض الأموال.

الفقرة الرابعة : موقف الإسلام من ظاهرة تبييض الأموال :

قال تعالى في كتابه الكريم :{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } ، وقال أيضا :{ ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون} .

لقد حرم الله سبحانه وتعالى جميع مصادر الأموال الحرام ودعا إلى التجارة في المال الحلال الخالي من أي دنس وإلى تملكه وذلك مصداقا لمضمون القاعدة الفقهية : كل ما كان أصله حرام فهو حرام . فقد حرم الله تملك كل شيء من شانه إيقاع الضرر بالنفس وبغير كما حرم الاتجار به ودعا إلى الكسب الحلال وأمرنا به فتجارة المخدرات والرقيق والدعارة والقمار والاتجار في الأسلحة غير المشروعة تجارة غير مشروعة والأموال التي يتم اكتسابها منها هي كذلك غير قانونية وغير شرعية .والأموال الناتجة عنها والتي تتعرض لعملية التبييض تعتبر مالا حراما مطلقا من الوجهة الدينية لذلك نهى الإسلام عن القيام بهذه الأعمال والأفعال التي تدر أموال قذرة .

___________________________________

1 – سليمان عبد الفتاح ،مكافحة غسيل الأموال أهمية مكافحة غسيل الأموال محليا ودوليا مرجع سابق ، ص 7 .
2 – سليمان عبد الفتاح ،مكافحة غسيل الأموال أهمية مكافحة غسيل الأموال محليا ودوليا مرجع سابق ، ص 7 .
3 – ابراهيم حامد طنطاوي ، المواجهة التشريعية لغسيل الأموال في مصر ، مرجع سابق ص 5.
4 – أشرف توفيق شمس الدين : تجريم غسيل الأموال في التشريعات المقارنة ، دار النهضة العربية 2001 ص 1 وما بعدها .
5 – سليمان عبد الفتاح، مكافحة غسيل الأموال، أهمية غسيل الأموال، محليا ودوليا، مرجع سابق ، ص 5.
6 -ابراهيم حامد طنطاوي المواجهة التشريعية لغسيل الأموال في مصر ، مرجع سابق ص 5 وما بعدها .
7 – تتلخص فكرة القرض الوهمي في قيام فاعل الغسل بالحصول على قرض ممول ذاتيا من أمواله ذات المصدر غير المشروع وذلك من خلال إيداع الأموال غير المشروعة بأحد البنوك في الدول التي لا تهتم بأصل النقود وإذا رغب في استخدام هذه الأموال في بلده التي يتميز نظامها المصرفي برقابة صارمة على مصادر الأموال غير المشروعة . فإنه يقوم هذا البنك الأخير بسداد قيمة القرض في حالة امتناع المقترض عن سداده ، ويتم السداد من الأموال غير المشروعة المودعة لدى البنك الضامن .
8 – سليمان عبد الفتاح، مكافحة غسيل الأموال أهمية غسيل الأموال محليا ودوليا مرجع سابق ، ص 5.
9 -قانون قمع غسيل الأموال لسنة 1994 لتعديل بعض أحكام التآمر .
10 – سورة البقرة ، الآية 171.
11 – سورة البقرة ، الآية 187.


قرأوا أيضا...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.