جريمة القتل العمد : الركن المادي والمعنوي لجرائم القتل

جريمة القتل العمد – الفصل الأول :
القتل العمد من أخطر جرائم الاعتداء على الأشخاص لأنه يستهدف إزهاق روح إنسان.ويكاد يجمع علماء وأنثروبولوجيا و الإجرام على أن القتل ظاهرة من أقدم الظواهر في سلوك الإنسان الأول في المجتمعات البدائية .وهي في مقدمة القيم التي تسعى مختلف التشريعات السماوية والوضعية لحمايتها وصيانتها على مر العصور هذه الحماية التي تظهر في قسوة العقوبة المرصودة للعقاب الذي يرتكبها عمدا والتي لا تختلف فيها مبدئيا وهي الإعدام ذلك أن الشريعة السماوية عاقبت القاتل عمدا بالقتل عملا بقوله تعالى :{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، أما بالنسبة للقانون الجنائي فتختلف ظروف ارتكاب القتل العمد من حالة إلى أخرى فقد يرتكب في صورته العادية وقد يقترن بظرف من ظروف التشديد أو بعذر من الأعذار المخفقة.

المبحث الأول: أركان جريمة القتل العمد.
تنص المادة 392 من ق.ج على ما يلي : ” كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا ويعاقب بالسجن المؤبد …” يستفاد مما تقدم بأن للقتل العمد ركنين وهما :
أولا: الركن المادي: وقد عبر عنه المشرع ب ” التسبب في قتل شخص للغير ” وهذا الركن في الحقيقة لا يختص بجريمة القتل العمد وحدها وإنما يتطلب توافره في جميع صور القتل عمدا كانت أم نتيجة خطأ فقط.
ثانيا: الركن المعنوي: ومفاده أن يكون إتيان الركن المادي – أي التسبب في قتل الغير – جاء عن قصد ونية إجرامية وهذا الركن يميز بواسطته بين القتل العمد والقتل نتيجة إهمال أو خطأ عموما .

المطلب الأول: الركن المادي لجريمة القتل:

يتطلب السلوك الإجرامي لجريمة القتل العمد ارتكاب الجاني فعلا ماديا وإيجابيا يكون هو السبب في إزهاق روح الضحية ، ولا يهم شكل أو وسيلة العنف المادي المجرم هنا وهذا يعني ضرورة توفر ثلاثة عناصر تقليدية في الركن المادي للجريمة بصفة عامة، وتتمثل في فعل الاعتداء على الحياة يؤدي إلى نتيجة إجرامية هي وفاة المجني عليه، وقيام العلاقة السببية بين الفعل الإجرامي.

الفقرة الأولى: النشاط الإجرامي.
إن المشرع في أي نظام جنائي لا يعاقب على النوايا المضمرة مهما كانت خبيثة وخسيسة لئيمة ذلك أن النية الإجرامية لا تشكل لوحدها وبذاتها خطورة على الحياة العامة مادامت في ضمير صاحبها بل حتى ولو افتضحت هذه النية شفويا أو كتابيا أو بأية وسيلة أخرى وتأكدت لدى القاضي بثبوتها فإن صاحبها لا يمكن أن يتابع بجريمة القتل العمد أو بالشروع فيه مادامت في ضمير الشخص ولم تخرج إلى حيز الوجود لأن قانون العقوبات لا يريد بل وليس من حقه أن يتعمق في سبر أغوار النفس الإنسانية لأنها ليست محل عمله .

وترتيبا لذلك فالقتل يتطلب سلوكا إراديا ملموسا في العالم الخارجي من شأنه إحداث الموت فإذا تحققت النتيجة ( الوفاة) كانت جريمة القتل تامة وإن لم تتحقق لأسباب خارجة عن إرادة الجاني كانت الجريمة محاولة أو شروعا . والمشرع المغربي كما يستفاد من نص المادة 392 ق .ج لم يضع تحديدا لفعل الاعتداء ولم يعتد بشكله فكل سلوك يصلح في نظره ليكون فعلا في الركن المادي للقتل ما دام قد أدى إلى إزهاق روح إنسان آخر وكل ما يهم في الفعل أن يكون صالحا لإحداث الوفاة حيث لا تهم الوسيلة المستخدمة لإحداث القتل لقيام الجريمة فمثلا من يلطم شخصا على وجهه فيموت لا يصح أن نسأله عن جريمة القتل إن أنكر ذلك يسأل عن ضرب أفضى إلى الموت ، ولو أن هذا الفعل لا يؤدي عادة إلى إزهاق الروح، كما أن استعمال سلاح أبيض أو ناري أو حارق أو آلة الإطلاق غاز خانق أو تسليط جراثيم فتاكة على دم المجني عليه أو إلقاءه من مكان عال بقصد قتله … الخ تعتبر كلها أفعالا مكونة للركن المادي في القتل العمد لأنها كلها تؤدي إلى إزهاق الروح عادة .

كما يمكن أن يكون النشاط إيجابيا أو سلبيا أي ( الامتناع) ولقد سوى المشرع المغربي بينهما من حيث ترتيب المسؤولية الجنائية للعقاب ، غالبا ما يتخذ فعل الاعتداء صورة إيجابية تتمثل في حركة عضلية تدفعها إلى وجود إرادة شخص معين ونحو ذلك : ضرب المجني عليه بعصا غليظة على الرأس أو طعنه بخنجر في صدره أو إطلاقه رصاصة عليه أو صعقة بتيار كهربائي أو حقنة بمادة سامة أو خنقه أو إغراقه ،وقد يكون الفعل سلبيا يتخذ صورة ترك أو امتناع عن إتيان فعل إيجابي يوجب القانون على الشخص أن يأتيه ونحو ذلك الممرضة التي تمتنع عن إعطاء المريض الدواء الذي وصفه له الطبيب فيموت أو امتناع المولدة عن ربط الحبل السري للولد فيموت ،فكل من يمتنع من هؤلاء عن التدخل لانقاد المجني عليه بنية قتله يسأل عن قتل العمدي.

إذن فالعبرة من نص المادة 392ق.ج بمعاقبة كل من تسبب في قتل الغير هي بتحقق الرابطة السببية بين فعل الاعتداء والنتيجة لا يهم بعد ذلك أن يكون الفعل قد ارتكبه الجاني بنفسه مباشرة أو بصورة غير مباشرة . فالذي يطلق أفعى أو كلب شرسا أو إنسان غير مسؤول كالمجنون أو الحدث غير المسؤول على أخر بنية أن يقتله يعاقب كقاتل متعمد ويعتبر قاتلا أيضا من اتخذ من الضجة نفسه وسيلة القتل فمن يرغم شخصا بالإكراه على قتل نفسه أو يوحي إليه بأن السلك الكهربائي غير صاعق ولا خطير فيمسكه فيموت يعتبر مرتكبا لجريمة القتل العمد.
ومتى كان نشاط الجاني كاف عادة لأحداث الموت فإنه يعتبر قرينة على وجود نية القتل ما لم يثبت المتهم العكس أما إذا كانت وسيلة الاعتداء على الضحية غير كافية عادة لأحداث الوفاة وترتب عنها مع ذلك الموت فإن على النيابة العامة لإثبات وجود نية القتل لدى الجاني وإلا كانت الجريمة مجرد ضرب أو جرح أو عنف أفضى إلى موت حيث تطبق عليه المادة 403من ق.ج.

الفقرة الثانية : النتيجة الإجرامية
تتمثل النتيجة الإجرامية التي تتم بوقوعها جريمة القتل في وفاة المجني عليه .
والوفاة كعنصر في الركن المادي في القتل لازم لقيام الجريمة لا تغني عنها أي نتيجة أخرى مهما كانت بليغة ويجب أن يكون المجني عليه الذي أزهقت روحه إنسانا إذ لووجه النشاط الذي أدى إلى القتل –بنوعيه-إلى حيوان فلا يمكن أن تقوم الجريمة حتى لو كان يظن الجاني أنه يقتل إنسانا وليس حيوانا.
وإذا كانت النتيجة الإجرامية في القتل لا تحقق قانونا إلا بتوقف حياة المجني عليه توقفا تاما ونهائيا فإن تحديد الأعراض التي يستنتج منها توقف الحياة تماما أمر يدخل في صميم اختصاص الطب الشرعي.

ولا يشترط حصول الوفاة عقب السلوك الإجرامي مباشرة وإنما قد يتحقق ذلك إثر النشاط وقد يتراخى تحقيقه زمنا،وفي حالة وقوع هذه النتيجة فعلا فإنه ليس ثمة ما يمنع من اعتبار الواقعة قتلا عمدا مادامت العلاقة السببية بين النشاط والنتيجة قائمة ومادام قصد القاتل ثابتا.وإذا لم تقع الوفاة وثبت توافر القصد الجنائي عدت الواقعة محاولة قتل إذا أوقفت الجريمة أو خاب أثرها لسبب لا دخل لإرادة الفاعل فيه ،فإذا أطلق المتهم عيارا ناريا على المجني عليه بقصد قتله فأصابه في غير مقتل أو لم يصبه على الإطلاق اقتصرت مسؤوليته على الشروع في القتل ،وكذلك الأمر بالنسبة لمن يطعن غريمه بسكين قاصدا قتله ولكن يتم إسعافه بالعلاج أما إذا تخلفت الوفاة راجعا إلى إرادة الجاني بحيث أوقف نشاطه أو خيب أثر فعله بإرادته متى كان ذلك ممكنا فإن المتهم لا يسأل حتى عن مجرد المحاولة على اعتبار أن عدم تحقق النتيجة راجع إلى إرادته مما يعد عدولا اختياريا ينتفي معه وجود الشروع قانونا طبقا للفصل 114ق.ج.وغني عن البيان أنه إذا انتفى القصد الجنائي لدى المتهم ووقعت الوفاة فإن الجريمة توصف بكونها ضربا أفضى إلى الموت .وإذا كانت الوفاة يجري إثباتها عادة بالخبرة الطبية فإن من الجائز تقريرها بكافة الوسائل ومن بينها القرائن البسيطة .
كما لا يلزم تقديم شهادة بالوفاة أو التحقق من هوية القتيل تماما وإنما يصح رفع الدعوة الجنائية من أجل القتل رغم عدم العثور على جثة القتيل التي قد يفلح الجاني أو غيره في إخفائها عن أعين السلطات بأي وسيلة من الوسائل .
وطبقا للقواعد العامة فإن عبأ إثبات وفاة المجني عليه يقع على عاتق النيابة العامة باعتبار الوفاة عنصرا في الركن المادي في جريمة القتل.

الفقرة الثالثة: العلاقة السببية
لا ينتفي صدور نشاط مؤذ من الجاني وموت الضحية لقيام الركن المادي لجريمة القتل بل يجب أن يتوفر إلى جانب ذلك وجود علاقة سببية بين ذلك النشاط وبين موت الضحية.
ويقصد بالعلاقة السببية ارتباط النتيجة الإجرامية وهي موت الضحية بنشاط الجاني ارتباط المعلول بعلته بحيث يكون ذلك النشاط هو الذي نشأ عنه موت الضحية وفقا للضوابط التي يسري عليها الوجود في هذا الكون.

والعلاقة السببية قد تكون واضحة لا يثور الجدل بشأنها كما في الحالات التي يستعمل فيها الجاني الوسائل المميتة عادة ويترتب عنها الموت فورا كقتل الضحية عن طريق الخنق أو الإغراق أو الصعق الكهربائي أو بالطعنات أو الضربات النافدة إلى القلب أو المخ…الخ، ولكنه في بعض الأحيان قد تكون هذه العلاقة غير ظاهرة إما بسبب اشتراك أسباب أجنبية مع نشاط الجاني في موت الضحية هذه الأسباب التي قد تكون سابقة على فعل الاعتداء أو لاحقة له مثل :التداوي أو الخطأ فيه، وإما بسبب طبيعة نشاط الجاني نفسه كما إذا كان هذا النشاط مجرد امتناع أو اقتصر على التأثير المعنوي على نفس الضحية أو كانت الوسيلة المستعملة في الاعتداء غير كافية لإحداث الموت حسب العادي من الأحوال ولم يثبت في نفس الوقت وجود أسباب أجنبية ساعدت على الوفاة.

والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو:
هل تقطع هذه العوامل الأجنبية عن فعل الجاني رابطة السببية بين فعله وحدوث النتيجة الجرمية(الوفاة) بعد أن تداخلت بينهما وأسهمت بدورها في أحداث النتيجة الضارة ؟ أم أن الجاني يظل مسؤولا عن النتيجة الحاصلة رغم تدخل هذه العوامل؟ وهل ثمة من ضابط أو معيار يمكن الاستعانة بت للقول بتوافر رابطة السببية أو عدم توافرها ؟
إن المشكل هنا يرتبط بحالة تعدد الأسباب وليس بحالة تسلسل النتائج لجرمية حيث تكون النتيجة الجرمية واحدة لم تتعدد ولم تتعاقب ، والأسباب أو العوامل هي التي تعددت وتداخلت في إحداث هذه النتيجة.

ولقد كانت دراسة السببية ولا سيما في حالة تعددها مبحثا لاجتهادات فقهية هامة وتتلخص الاتجاهات الفقهية السائدة في هذا الخصوص في ثلاث اتجاهات :
اتجاه (نظرية) السببية المباشرة-اتجاه السببية المناسبة أو الملائمة-اتجاه تعادل الأسباب.
+ اتجاه السببية المباشرة: مقتضى هذا الاتجاه ألا يسأل الجاني عن النتيجة التي حصلت إلى إذا كانت متصلة اتصالا مباشرا بفعله .
فالسببية على هذا النحو تتطلب نوعا من الاتصال المادي بين الفعل والنتيجة فهي لا تعترف إلا بالارتباط المباشر والمحقق بينهما .
ويبدو هذا الاتجاه من أكثر الاتجاهات تضييقا لنطاق السببية ومراعاة للمتهم وقد أخد عليه أنه يؤذي إلى إفلات الجاني أحيانا من عواقب أعماله إذا ما تداخلت إلى جانبها عوامل أخرى ولو بقسط يسير أو بصورة مألوفة.
+ تجاه السببية المناسبة أو الملائمة : هذا الاتجاه يرسم للسببية نطاق أوسع من سابقه وتنسب هذه النظرية في المقام الأول إلى الفقيهين الألمانيين”humelui-vonkries” وبمقتضاها أن الفعل الصادر عن الجاني لا يعتبر سببا لوقوع نتيجة جرمية معينة إلا إذا تبين أن هذا الفعل صالح الأحداث تلك النتيجة وفقا للمجرى العادي للأمور ويعتبر فعل الجاني سببا مناسبا أو ملائما للنتيجة التي حصلت إذا كان كافي بذاته لحصولها مادامت ظروف الحال تنبؤ بأنه قد توقعها وبصرف النظر عن العوامل الأجنبية والتي تكون قد توسطت بين فعله والنتيجة النهائية ومن تم فإن السببية الملائمة لا تكتفي بوجود رابطة طبيعية بين السلوك والنتيجة وإنما تتطلب في السلوك مواصفات خاصة وهي أن يملك الإمكانيات الموضوعية لتحقق النتيجة بحيث تبدو هذه متوقعة وفقا للمجرى العادي للأمور.
فالعبرة في هذا الاتجاه إذن هي بكون النتيجة ممكنة وعادية مع مراعاة الأمور و العوامل التي حدثت فإن تداخل في مجرى الحوادث عامل شاد أو استثنائي-انقطعت رابطة السببية كما كان موت المصاب قد حصل نتيجة إحراق المستشفى الذي نقل إليها .
وتعد هذه النظرية من أكثر النظريات شيوعا سواء في الفقه أو القضاء في تحديد السببية لكن يؤخذ عليها مع ذلك كونها لا تخلو من التحكم فاعتبار النتيجة متوقعة أم شاذة مع مراعاة الظروف التي حدثت فيها مسألة تقديرية يختلف فيها تقدير الناس ولا يصح أن تبنى أحكام القانون الجنائي على أسس تحكمية.
+ اتجاه تعادل الأسباب: تقوم هذه النظرية على أساس المساواة بين جميع العوامل التي ساهمت في أحداث النتيجة الإجرامية ذلك أن هذه النتيجة ما كانت لتحدث لو تخلف عامل واحد من هذه العوامل ،إذ فكل عامل من هذه العوامل سواء كان يتوقعه الجاني أم لم يكن يتوقعه وسواء كان حدوثه وفقا للمجري العادي للأمور أم كان شذوذا في مجراها العادي وتطبيقا لهذه النظرية فالجاني مسؤول عن فعله حتى ولو ساهمت معه في أحداث النتيجة عوامل أخرى طبيعية كضعف المجني عليه الصحي وإصابته بمرض سابق كان مازال يعاني منه أو من أثاره أو غير طبيعية كالخطأ الجسيم للطبيب المعالج أو إهمال المجني عليه الجسيم في علاج نفسه ذلك بأن فعل الجاني هو الذي حرك هذه العوامل الأخرى وأوجد ظروفها بحيث لولاه لما كانت صالحة لإحداث النتيجة .

بل إن العوامل الشادة وفقا لهذه النظرية لا تنقص من مسؤولية الجاني،فانقلاب السيارة التي أقلت المجني عليه وهو في طريقه إلى المستشفى لا تنفي مسؤولية الفاعل عن الجريمة ذلك أنه لو لم يقع منه الاعتداء لما ركب المجني عليه السيارة أو لما ذهب إلى المستشفى وبالتالي فإن النتيجة ما كانت لتحدث.
غير أن هذه النظرية وإن كانت تقوم على أساس منطقي إلا أن عيبها هو أنها لا تقوم على أساس عادل لأنه حقا أن النتيجة التي حدثت هي محصلة عوامل متعددة وحقا أن تخلف عامل واحد من هذه العوامل كان يمكن أن يؤدي إلى عدم حدوثها وحقا أن فعل الجاني كان هو السبب المحرك للعوامل الأخرى، ولكن دلك لا ينفي أنه يوجد من بين هذه العوامل عامل أقوى في تأثيره من الأخر، ويوجد من بين هذه العوامل عوامل طبيعية وأخرى غير طبيعية وعوامل متوقعة واخرى غير متوقعة لذلك فإذا أقمنا المساواة بين هذه العوامل جميعها فقد خرجنا على مبدأ العدالة وبالتالي أخذنا الجاني بأكثر مما يستحق وربما كان هذا السبب لقلة أنصار هذه النظرية في الفقه وإعراض القضاء عنها .
ومهما يكن هناك من آراء فقهية حول الأخذ بالسبب المباشر أو السبب الملائم والمناسب أو تعادل الأسباب وتكافئها فإننا نميل إلى القول بعدم تقييد القاضي بأي معيار من المعايير الموضوعية المجردة وانه ينبغي ترك أمر استخلاص العلاقة السببية لقاضي الموضوع يبحث فيها كل قضية حسب وقائعها وملابساتها وعليه أنه يبين الوقائع التي استنبط منها وجود أو انتقاء العلاقة السببية حتى يتأتى لقاضي النقض أن يراقب سلامة الاستنتاج الذي انتهى إليه قاضي الموضوع من الوقائع الثابتة أمامه .

وبعبارة أخرى فإن قاضي الموضوع يتثبت من الوقائع المكونة للعلاقة السببية وله أن يستعين في ذلك بكل الوسائل القانونية المفيدة وفي مقدمتها الخبرة الطبية ويرجع إلى سلطته التقديرية وإلى اقتناعه الوجداني الفاصل في ثبوت أو عدم ثبوت تلك الوقائع ولا جدال في هذا كما أنه لا جدال في ضرورة ذكر ما ثبت لديه من وقائع في الحكم لأن ذلك يدخل في التعليل الواجب الأحكام .
كما جاء في قرار المجلس الأعلى ” وحيث إن القرار المطعون فيه الذي أدان العارض بجناية الضرب والجرح العمريين المؤديين إلى الموت دون نية إحداثه وعاقبه من أجل ذلك بخمس سنوات حبسا، اقتصر في حيثياته المتعلقة بالدعوى العمومية على تعليل وجه اقتناع المحكمة بحضوره واقعة المضاربة ومشاركته فيها، دون أن يبرز ثبوت العلاقة السببية التي هي عنصر من عناصر الجريمة وأن الضرب الواقع على المجني عليه كان هو السبب المباشر في موته فجاء بذلك ناقص التعليل ومنعدم الأساس القانوني مما يتعين معه نقضه وإبطاله” .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو ما مدى رقابة قاضي النقض على أحكام القاضي؟
من المسلم به أن الحكم يكون معيبا وبالتالي معرضا للنقض إذا لم تذكر فيه الوقائع التي استخلص منها قاضي الموضوع العلاقة السببية وكذلك إذا كان الاستنتاج غير سليم كما إذا كانت العلاقة السببية التي قررها تتعارض أو تتناقض مع وقائع أثبتها الحكم نفسه – لكن إذا اقتصر قاضي الموضوع على ذكر بعض الوقائع واعتبرها كافية لإثبات العلاقة السببية أو لنفيها بينما يرى قاضي النقض عدم كفايتها هل يحق له أن يتدخل وينقض الحكم ؟
نعم يحق له التدخل لأن ذلك يعتبر نقصا في التعليل وقاضي النقض يحق له رقابة تعليل الأحكام وأساسها القانوني ( م 586 – فقرة أخيرة من المسطرة ) بالإضافة إلى أن علاقة السببية مصطلح قانوني يراقب قاضي النقض قاضي الموضوع في سلامة تطبيقه .

ويبدو أن المجلس الأعلى يسير في هذا الاتجاه وإن نص في بعض قراراته على أن البث في العلاقة السببية يرجع إلى قاضي الموضوع بما له من السلطة المطلقة في تقدير الوقائع.
كما جاء في قرار المجلس الأعلى” يكون ناقص التعليل وغر مبني على أساس قانوني الحكم القاضي بإدانة المتهمين من أجل محاولة القتل عمدا والمشاركة فيها من غير أن يبين أن محاولة هذه الجناية التي شرع في تنفيذها بإخراج طلقة نارية صوب الضحية لم يحصل الأثر المتوفى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها .
وأيضا في قرار آخر عدد 1067 الذي جاء فيه ما يفيد :” إن عدم كفاية وسائل الإثبات لا يمكن أن يفضي إلى النقض ما دام أن عرض أدوات الإثبات غير مقرر تحت طائلة البطلان وأنه لا يشكل إجراءا جوهريا. إن كان الحكم لم يبرز الظروف المشددة للسرقة فإن العقوبة المحكوم بها تبقى مع ذلك مبررة بما ثبت ثبوتا كافيا من قتل الضحية عمدا ومع سبق الإصرار من أجل إعداد وتسهيل اقتراف السرقة.
لا تقبل أمام المجلس الوسيلة التي لا تخرج عن كونها مجادلة في حجج الإثبات التي حظيت بقبول قضاة الموضوع في مادة لم يحدد فيها القانون وسائل إثبات معينة .

المطلب الثاني: الركن المعنوي:

الركن الثاني في جريمة القتل العمد هو القصد الجنائي ومعناه أن تتجه إرادة الجاني إلى إتيان النشاط الصادر منه (إيجابيا كان أم سلبيا) وإلى النتيجة الإجرامية المقصودة من ذلك النشاط التي هي إزهاق روح المجني عليه. فجناية القتل العمد لا تقدم قانونا ولا يعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عن قصد وعمد(الفصل 133ق.ج.). إذن فالقصد الجنائي هو قوام الركن المعنوي في جريمة القتل العمد وبانتفائه تنتفي الجريمة بهذا الوصف، فبواسطته يمكن التمييز بين حالات القتل العمد (الفصل 392ق.ج.) والقتل الخطأ (الفصل 432ق.ج.) والإيذاء المفضي إلى الموت (الفصل 403ق.ج.) حيث أن الفعل الذي يفضي إلى إزهاق الروح يتأثر بمدى اتجاه إرادة الفاعل إلى إحداث النتيجة أم لا .

الفقرة الأولى : عناصر القصد الجنائي
لقد جاء في قرار المجلس الأعلى على أنه “يجب على الحكم في حالة الإدانة من أجل القتل عمدا، أن يثبت أنا المعتدي قد فكر بالفعل في هذه النتيجة وأنه قام بالعمل المنسوب له من أجل الحصول عليها” و أقضية القضاء تشترط لقيام ركن معنوي في القتل العمد ضرورة توافق قصد عام لدى الجاني الذي يتمثل في توجيه لإرادته إلى القيام باعتداء على إنسان حي ،مع العلم بحقيقة ما يقوم به وقصد خاص وهو استهدافه من ذلك الاعتداء إزهاق روح المعتدي عليه وإلا ما قامت جريمة القتل العمد بينما يرى البعض الأخر أن القصد الجنائي في هذه الجريمة هو القصد الجنائي بمفهومه المتطلب في كافة الجرائم مهما كانت والذي يقوم على عنصرين أولهما :هو العلم بجميع الوقائع والظروف التي أحاطت بارتكاب الجريمة أي أن يكون الجاني محيطا إحاطة تامة بحقيقة الواقعة المجرمة واقعيا وقانونيا وهذا يقتضي علمه بأنه يوجه فعل الاعتداء إلى إنسان حي وأن هذا الفعل يشكل خطورة على حياة المجني عليه وأن من شأنه إحداث الوفاة وثانيهما:الإرادة أي أن يهدف الجاني إماتة الشخص يمنع القانون قتله ولابد أن تكون إرادة الإنسان حرة حتى تترتب المسؤولية الجنائية فإذا لم تكن حرة كما لو ارتكب القتل قوة قاهرة كالإكراه أو تحت تأثير تنويم المغناطيسي أو نائم ،أو كما انقلبت الأم على وليدها النائم إلى جانبها فخنقته. الإرادة الحرة ينتفي وبالتالي لا يتحقق ركن المسؤولية المعنوي

الفقرة الثانية : الحالات التي لا ينتفي فيها القصد الجاني في جريمة القتل العمد .
متى توفرت نية القتل لدى الجاني فلا يؤثر قيام الجريمة وقوع خطأ في شخص المجني عليه ،سواء كان هذا الخطأ ناشئ عن خطأ في الشخص من وقع عليه الفعل أو عن خطأ في توجيه الفعل ،فإن جميع العناصر القانونية للجريمة تكون متوفرة في الحالتين كما لو وقع الفعل على ذات المقصود ذلك أن القصد من تجريم فالمشرع للقتل هو حماية النفس الإنسانية عموما ،كمن يصطاد في غابة فيرى شبحا بين الأشجار فيعتقد أنه غزال أو حيوان فيطلق عليه النار ،فإذا به إنسان لم يراه.

هناك حالات أخرى لا ينتفي فيها القصد العمد نجملها فيما يلي:
+ إذا كان الباعث لدى الجاني بريئا ونبيلا بحد ذاته كالقتل بدافع الشفقة أو الرحمة l’enthouasie. ذلك أن الباعث على إزهاق الروح حتى ولو كان كما سبق فإنه يتساوى مع الباعث الخسيس وإن كان القاضي يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند تقدير العقوبة.

+ حالة اتجاه نية الفاعل تتجه إلى ارتكاب القتل ،لكن دون تحديد لشخص معين أي دون أن يستهدف بعدوانه ضحية معينة ونحو ذلك :الشخص الذي يلقى قنبلة على تجمع لخصومه السياسيين بقصد قتل أي منهم .فالقصد الجنائي يتحقق عنده إذا ثم القضاء على أي من هؤلاء الخصوم ويعد بالتالي قاتلا عمدا.+ القصد الجنائي لدى الفاعل لا يؤثر فيه قتل الجاني لمجني عليه غير ذلك الذي كان يقصده ابتداء إما نتيجة غلط في شخصيته -أي شخصية المجني عليه-كما لو قتل شخص اعتقده عدوه في حين لم يكن هذا القتيل سوى مجرد شبيه لهذا العدو وأما عن خطأ ونحو ذلك أن يرمي شخص عدوا له بقنبلة حارقة فيخطئه وتصيب غيره وتقتله نية القتل عند الجاني لا تعتبر منتفية قانونا ولو أنها انتفت واقعيا في كل حالة فرض القانون قيامها بنص من النصوص ونحو ذلك أن يصدر فعل القتل جاني تعاطي باختياره لمواد أفقدته الإدراك كالخمر أو المخدرات بمختلف أنواعها مثلما ما نص عليه الفصل (137من ق.ج.) “السكر وحالات الانفعال أو الاندفاع العاطفي أو الناشئ عن تعاطي المواد المخدرة عمدا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعدم المسؤولية أو ينقصها”.

لكن ما الحكم لو أن الجاني توقع حصول الموت كنتيجة ممكنة ومحتملة لفعله الذي قام به فاستمر في نشاطه غير عابئ به فهل يعتبر مرتكبا لجريمة قتل عمد لتوفر القصد الجنائي لديه أم لا ؟
إن الجواب عن هذا السـؤال يقـودنا للحديث عن القصد الاحتمالي في جريمة القتل .
القصد الجنائي يفترض أن يقدم الجاني عن فعله وهو يريد تحقيق النتيجة الإجرامية منه فإذا حدثت هذه النتيجة فإن مسؤولية الجاني تكون تامة بلا خلاف أما إذا لم يرد الجاني تحقيق النتيجة ورغم ذلك حدثت فإنه لا يسأل مسؤولية عمدية ولكن بين وجود الإرادة وعدمها توجد درجات من الاحتمال أو إمكان توقع النتيجة فهل يسأل الجاني في هده الأحوال مسؤولية عمدية إذا أحدثت النتيجة وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاث صور للقصد الاحتمالي.

الصورة الأولى : إذا توقع الفاعل أن الموت أمر محقق ولازم لفعله ومع ذلك يقدم عليه فإنه يسأل مسؤولية القتل العمد وليس عن جريمة القتل الخطأ أو الإيذاء المفضي للموت وذلك لأن الركن المعنوي قائم لديه في هذه الصورة ولو أنه لم يرد النتيجة وهذا بإجماع الفقه على اعتبار أن من كان متأكدا مسبقا من أن نشاطه لابد وأن تترتب عنه النتيجة وبالكيفية التي انتهت إليها ومع ذلك اقدم عليه فيعامل وجوبا مثله من أراد النتيجة بالفعل ونحو ذلك أن يقوم الجاني بإغراق سفينة أو قلب قطار لأي هدف كان ويترتب عن ذلك موت عدة أشخاص فالجاني في حالة إغراقه للسفينة أو نسفه للسكة الحديدية بغرض قلب القطار قد لا يكون هدفه قتل أحد من الركاب ولكن هذا القتل لازم لفعله بحسب المجرى العادي الأمور .

الصورة الثانية : إذا توقع الجاني حصول وفاة ومع ذلك يقبل هذا الاحتمال ويمضي في فعله مخاطرا وغير مكترث لما سيحدث ونحو ذلك أن يضرب شخص آخر على رأسه بفأس أو آلة حادة أو بعصا غليظة فيموت المجني عليه في حين نتيجة لذلك فالجاني في هذه الصورة أراد الضرب فقط ولكن هذا الضرب أفضى إلى الموت وهذا الموت أمر لا شك في أن يكون الجاني قد توقعه لما استعمل في الضرب تلك الوسائل الخطيرة ولكنه لم يبالي إذا تساوى لديه حدوث النتيجة من عدمها .

وحكم هذه الصورة اختلف في شأنه الفقهاء فمنهم من يرى بأن الجاني يسأل كقاتل عمدا ما دام قد أتى الفعل رغم أنه كان قد توقع النتيجة ومع ذلك لم يبالي بالعواقب فيكون من ناحية خطورته الإجرامية مساويا لمن يستهدف مباشرة حدوث النتيجة ولذلك يعتبر أنه قد تعمد في إحداثها في حين يرى فريق آخر أن القصد الاحتمالي في هذه الحالة لا يمكن مساواته بالقصد الذي ينبغي أن يتوفر في القتل العمد وإنما يسأل –الجاني- فقط عن جريمة ضرب أو جرح أو إيذاء أفضى إلى الموت .
الصورة الثالثة : إذا توقع الفاعل النتيجة كاحتمال ممكن وقوعه إلا أنه يعتمد على مهاراته في تفاديها أو منع حدوثها فإن القصد الجنائي لديه منتف أصلا ونحو ذلك أن يضع أحد لاعبي السيرك كأسا يحتوي على شمعة مستعملة على رأسه أو ماشاكل ذلك كهدف أو مرمى ويقوم زميل له برمي هذا الهدف بسهم أو ببارود أو أحجار الخ … ويحصل ذلك أثناء رشق الهدف أن يخطئ الراشق أو الهداف الهدف (الشمعة المستعملة فيقتل الضحية فاللاعب في هذا المثال لما كان يرشق الهدف كان يتوقع ولا شك أن يخطئه ويصيب زميله إلا أنه مع ذلك جازف وخاطر في إتيانه اللعبة اعتمادا على ما لديه من المهارة والتجربة إلا أن المؤكد هو أنه لو كان يعتقد بأنه سيزهق روح زميله لما قام بالرشق أبدا والفقه المتفق على أن الفاعل لا يسأل إلا عن جريمة قتل خطأ في هذه الحالة لا نعدم القصد الجنائي لديه.

جرائم القتل في القانون الجنائي المغربي – بحث جامعي وإحصائيات

باقي أجزاء البحث : قائمة البحوث الجامعية, إضغط هنا

قرأوا أيضا...

فكرتين عن“جريمة القتل العمد : الركن المادي والمعنوي لجرائم القتل”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.